مصريون في سلطنة عُمان

محمد صابر عرب.. حارس التاريخ وأحد رواد التنوير

محمد السعداوي

بالفقد تتحرك المشاعر، عندما يفقد التاريخ واحدًا من أشرف حراسه وأعظم الأمناء عليه، وتطفأ شعلة متوهجة من ذاكرة الأمة، عندما يرحل رجل مؤرخ وثيق الصلة بالتاريخ وأرشيف الزمان ووثائقه، هنا تفقد الأمة ذاكرتها وتتساقط أوراقها، عندما ترحل عنَّا قامة فكرية غنية مثل الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة المصري الأسبق لا نُصاب بالحزن فقط؛ بل تتوقف الذاكرة وتتجمد المشاعر؛ فالراحل عَمِل على استقلال الثقافة، ورفض تحويل المؤسسات الثقافية إلى أدوات دعائية، ودافع عن دورها التنويري، رغم ما واجهه من انتقادات وهجمات. كان حضوره هادئًا، لكن مواقفه كانت واضحة، تنطلق من إيمان راسخ بأنَّ الثقافة لا تُدار بعقلية الغلبة ولا تخضع للمنتصر.

حياة وسيرة حافلة دكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة المصري السابق، وأستاذ تاريخ العرب الحديث بجامعة الأزهر، ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، وكان وزيرًا للثقافة في حكومات متتالية حكومة الدكتور كمال الجنزوري، ديسمبر 2011 وحكومة دكتور هشام قنديل، أغسطس 2012. وحكومة دكتور حازم الببلاوي 2013.

بدأ الدكتور عرب حياته العملية معيدًا بقسم التاريخ والحضارة في جامعة الأزهر بين عامي 1974 و1979، ثم مدرسًا مساعدًا، فمدرسًا حتى العام 1988. وعمل رئيسًا لدار الوثائق القومية حتى 2004، ثم رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية في 2005.

صورة داخل النص بعد الفقرة الأولى.png
 

انتقل عرب للعمل بسلطنة عُمان أستاذًا مساعدًا بجامعة السلطان قابوس خلال الفترة من 1986 إلى 1991، ونظرًا لحُبه وشغفه بسلطنة عُمان لم ينقطع عنها، حتى في فترات انشغاله عندما تقلَّد العديد من المناصب والمراكز العلمية والسياسية- أهمها وزير الثقافة- ظل على علاقات دائمة وتواصله مستمر مع كثير من المثقفين والجامعيين والسياسيين بالسلطنة، وقد عُرض عليه العمل مرة أخرى كعضو هيئة تدريس زائر بجامعة السلطان قابوس، في قسم التاريخ عام 2017.

وعن تجربته في سلطنة عُمان يقول: "منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وأنا أتابع عن بعد ما كان يحدث في عُمان حينما تناقلت وكالات الأنباء العالمية أخبار السلطان الشاب وهو يخاطب بني وطنه عن آلامهم وآمالهم، وقد تجمع الناس من كل صوب في ملابسهم البيضاء يرقبون الطائرة التي هبط منها السلطان قادمًا من صلالة، وقد ارتسمت على وجهه علامات الرضا والثقة، بينما راح المواطنون يتبادلون التهنئة وقد غمرتهم الفرحة التي عمَّت كل أنحاء عُمان". هكذا تحدث الدكتور صابر عرب عن "تجربتي في بلد أحببته" سلطنة عُمان.

ساهم الدكتور محمد صابر عرب في كثير من الندوات والأعمال الثقافية بسلطنة عُمان؛ حيث شارك في إصدار أهم كتاب موسوعي حديث صدر عن وزارة الإعلام وهو كتاب "عُمان في التاريخ" الذي تحول الى عمل درامي ناجح ومتميز، وكان من بين الأساتذة الأجلّاء الذين أسهموا في انطلاقة جامعة السلطان قابوس منذ تأسيسها في الثمانينيات من القرن الماضي، وشارك بجهوده العلمية والفكرية في بناء مسيرتها الأكاديمية. كما أصدر عشرات الدراسات والبحوث عن عُمان وعلمائها ومن أهم بحوثه «المنهج التاريخي في كتابات المؤرخ العُماني سالم بن حمود السيابي»، و«المنهج التاريخي في كتابات المؤرخ العُماني حميد بن رزيق»، و«تجارة الخليج العربي في ظل السيطرة البرتغالية»، و«دولة اليعاربة بين الوحدة الوطنية والانتصارات الخارجية»، و«العلاقات المصرية العُمانية في عهد السيد سعيد بن سلطان». كما ساهم في إثراء المكتبة العربية والعُمانية بعشرات الكتب المنشورة عن التاريخ الحديث منها «المدخل إلى تاريخ أوروبا الحديث". و«تاريخ العرب الحديث»، و«موجز تاريخ عُمان» باللغة الإنجليزية، و«الدين والدولة في الفكر الإباضي الحديث».

وكان الدكتور عرب شاهدًا على النهضة، فقد تحدث عن عُمان كثيرًا بعبارات راقية؛ حيث نجده يقول: "كانت تمضي بخطوات ثابته، كان التعليم هو العنوان الأكبر، وكان المجتمع العُماني برمته يتحرق شوقا لتعليم أبنائه، وقد أتيحت الفرصة للجميع من سكان الساحل والداخل، أبناء القبائل الكبيرة والصغيرة عامة الناس دون فروق بين أبناء المشايخ وأبناء العامة، الفتاة شغلت مساحة أكبر سواء من حيث التفوق أو من حيث العدد مقارنة بالأولاد..... لقد لاحظت، وفي أقل من خمس سنوات، حجم التغيير في المجتمع، ليس في الجامعة فقط وإنما في كل مؤسسات الدولة راح الجيل القديم ممن كانوا يتقلدون الوظائف العليا، يتيحون الفرصة للأجيال الجديدة دون صراع أو تنافس، بدا الحراك الثقافي والاجتماعي في كل مناحي الحياة. لقد شاهدت بعيني رأسي الغرس وهو يزرع سواء في الشجر أو البشر، ومع نهاية فترة عملي مع بداية التسعينيات شاهدت أيضا نفس الغرس وهو يؤتي ثماره، شباب قد تخرجوا في الجامعة. بعضهم سافر إلى الخارج لاستكمال دراسته العلياء والآخرون راحت تتلقفهم مؤسسات الدولة في التعليم والصحة والمحليات والإدارة، ولم تنقطع صلتي بالكثيرين منهم".

وقد نعى سعادة السفير عبدالله بن ناصر الرحبي سفير سلطنة عُمان لدى مصر ومندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية الدكتور محمد صابر عرب، مؤكدًا أن الفقيد كان قامة ثقافية وفكرية عربية بارزة، ورمزًا من رموز العطاء العلمي والإنساني، الذي ترك أثرًا عميقًا في ميادين الثقافة والفكر والعمل الأكاديمي. وتابع: "وقد تعرف الفقيد على سلطنة عُمان عن قرب، وأقام فيها علاقاتٍ واسعة ومتينة مع مثقفيها ومسؤوليها وظلّت هذه العلاقة الوجدانية والإنسانية قائمة على الودّ والاحترام المتبادل، شاهدة على نبل أخلاقه وسمو فكره وصدق عطائه".

رحم الله الدكتور محمد صابر عرب وأثابه خيرًا على ما قدمه للأمة من أعمال.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z