منى بنت حمد البلوشية
يحتفي العالم العربي في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام بـ اليوم العالمي للغة العربية، هذه اللغة العريقة التي لم تكن يومًا مجرد وسيلة للتخاطب، بل كانت وما تزال وعاءً للفكر، ومرآةً للحضارة، وجسرًا يصل الماضي بالحاضر، ويُؤسس للمستقبل.
فاللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، وبه اكتسبت قدسيتها وخلودها، وحُفظت عبر القرون حِفظًا فريدًا لم تحظَ به لغة أخرى، وهي لغة الشعر والفلسفة والعلم، حملت علوم الطب والفلك والرياضيات إلى العالم، وأسهمت في النهضة الإنسانية حين كانت منارات العلم تُضاء بحروفِها في بغداد وقرطبة والقيروان..
ويمتاز اللسان العربي بثرائه ومرونته وجمال بيانه، فهو قادر على التعبير عن أدق المشاعر وأعمق الأفكار، كما يتمتع بقدرة استثنائية، مما يجعله صالحًا لمواكبة التطور العلمي والتقني متى ما أُحسن استخدامه والاعتزاز به.
ويأتي يوم اللغة العربية ليذكرنا بمسؤوليتنا تجاه لغتنا، في زمن تتسارع فيه العولمة وتتزاحم اللغات الأجنبية على حساب الهوية العربية. فحماية اللغة العربية ليست ترفًا ثقافيًا، بل واجب وطني وحضاري، يبدأ من الأسرة، ويمر بالمدرسة، ويترسخ في الإعلام، ويزدهر في ميادين البحث والإبداع.
ومن المُحزن جدًا أن تُخلط اللغة العربية بمصطلحات أخرى بغرض التطور والتحضر، وكأنّ لغتنا العربية لا تفي بالغرض، حيث أصبح البعض يخجل أن يتحدث بلغته خوفًا بأن يُقال عنه بلا ثقافة، إنّ لغتنا لغة غنية بمفرداتها، وأكثرها فصاحة وبيانًا وأكثر اللغات دقة في التعبير.
في أحد الأيام، التقيتُ إحدى رفيقاتي منذ مدة لم نلتقِ، حدثتني عن أحد أبنائها الذين تلقوا العلم في إحدى المدارس العالمية (ثنائية اللغة) التي تهتم بتعليم اللغة الإنجليزية؛ حيث يفخر بعض الآباء بذلك، واشتكت لي من ندمها الشديد لعدم اتقان ابنها لغته الأم، بينما أتقن اللغة الإنجليزية بينما كان الأمر لديها في غاية الأهمية والفخر، إلا أنها آثرت نقل ابنها لمدرسة أخرى تهتم بتعلم اللغة العربية لتُعيد تأهيله واستعادته للغته الأم قبل فوات الأوان، فأنا لستُ ضد تعلم اللغات الأخرى ولكن لابد لنا أن نوازن في تعليم أبنائنا بما يليق بهم. وهذا ما أثار غيرتي، بينما نجد من يتسابق لتعلم اللغة العربية.
وفي صورة أخرى شعرتُ بالفخر بفتاة صينية الأصل التقيتُ بها منذ مدة طويلة في إحدى الجامعات تدرس بقسم اللغة العربية وتتقنها وكأنَّها لغتها الأم تحدثنا عن بداية دراستها وكيف آثرت تعلم اللغة العربية والأسباب التي دفعتها لذلك. الكثير من القصص والصور التي قابلتها وأعلم أنها لن توفيها مقالة واحدة.
فكيف لنا ألاّ ندافع عن اللغة العربية ويحضرني أن أذكر الأديب العالمي نجيب محفوظ كيف استمات دفاعًا عن جمال اللغة العربية خلال مشواره الأدبي واستخدمها على لسان شخصياته؛ حيث لاقى الكثير من الانتقادات وأيده في ذلك عميد الأدب العربي طه حسين حيث كانت كتاباته باللغة العربية الفصحى ولم يستخدم غيرها حتى في الحوار بين الشخصيات إلا أنه لقي من الانتقاد ما لقيه نجيب محفوظ في ترك لهجته الشعبية.
إن الاعتزاز باللغة العربية هو اعتزاز بالذات والانتماء، والتمسك بها هو حفاظ على الجذور والهوية. فلنحيِ هذا اليوم بتجديد العهد مع لغتنا، قراءةً وكتابةً وتحدثًا، ولنجعلها حاضرة في حياتنا، نابضة في فكرنا، شاهدة على حضارتنا، ومضيئة في طريق أجيالنا القادمة.
اللغة العربية ليست ماضيًا نفخر به فحسب، بل مستقبل نصنعه بحروفنا لأنفسنا وللأجيال القادمة، فلنحافظ عليها بكل ما أوتينا من حب للغة القرآن الكريم.
