حمد الصبحي
لا أحد يروي تاريخ عُمان بروح العاشق كما يفعل حاكم الشارقة سُّمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي؛ فكلّما تحدّث، كانت عُمان تسكن طرف الحديث، وتتدلّى من حواف عباراته كحكاية قديمة تنتظر من يُوقظها.
لا يكاد يظهر في محفل علمي أو لقاء ثقافي أو إعلامي، إلّا وكان لعُمان نصيبٌ من كلامه؛ نصيب يشبه الاعتراف والوفاء، أو الدين الجميل الذي يسدّده بصمت نبيل، وكأنَّ بينه وبين هذه البلاد عهدًا لا يُقال لكنه حاضر في كل حرف.
في كل مرة يفتح كتابًا أو يعرض وثيقة، نشعر كأنَّ يده تتحرك على خزائن النسيان، وكأنه يعيد ترتيب الذاكرة التي بعثرها الاستعمار وخطفتها الروايات الأجنبية. وفي حضوره يعود البحر ليضيء، وتنهض الصحراء لتروي، وكأن كل ما أُغلق من زمن يُفتح من جديد بعين منصفة تعرف قيمة الحقيقة وتُدرك أثرها.
سُئل مرة سؤالًا مباشرًا: لماذا عُمان؟ لماذا كل هذا الشغف؟ لماذا السفر خلف الوثائق ومن مخازن الغبار إلى قاعات الضوء؟ وكانت إجابته، رغم بساطتها، تحمل روح رجل يعرف ما يفعل: «عُمان بلد أصيل، وبه مواقف وطنية مشرّفة في طرد المُحتل، تستحق أن يُنفض عنها الغبار وتُروى كما ينبغي». لم يكن يجيب فقط؛ بل كان يشرح بطريقة غير مباشرة الدافع الذي جعله يغوص في تاريخ هذه البلاد كما يغوص الغواص بحثًا عن لؤلؤ نادر.
ليس القاسمي مؤرخًا أو باحثًا يتقصى الماضي. إنه رجل حمل الوثيقة كما يحمل المرء رسالة مقدسة. ذهب إلى الأرشيفات التي تهابها المؤسسات، فاوض على وثائق نادرة، أنفق من ماله ووقته ليعيد للمنطقة تاريخًا ضاع في زحمة القوى الكبرى. بعض ما يحتفظ به من وثائق عُمانية لا تملكه المؤسسات الرسمية نفسها، وهو أمر يبعث على الفخر من جهة، وعلى الألم من جهة أخرى. فكيف لرجل جاء من خارج الحدود أن يكون أحرص على ذاكرتنا منا؟
هنا يتجدد السؤال الذي يعلقه التاريخ في الهواء: ماذا قدّمنا نحن له؟ نحن أبناء هذا الإرث الذي أعاد ترتيبه، وأصحاب هذا التاريخ الذي حمله بين يديه كأمانة؟ هل شكرناه كما ينبغي؟ هل احتفينا بجهده ومعرفته وصبره؟ أم أننا اكتفينا بالمشاهدة بينما يقوم هو بما كان ينبغي أن نقوم به نحن منذ زمن طويل؟
إن ما فعله القاسمي لم يكن مجرد كتابة. لقد أعاد لتاريخ عُمان صوته ومهابته، أنصف الوقائع، وواجه الروايات الاستعمارية بجرأة الباحث وثبات العادل. كتب تاريخًا جديدًا عبر وثائق قديمة، وأعاد للعالم صورة حقيقية عن الدور العُماني في البحر والتجارة والمقاومة. لم يتعصّب، ولم يزوّر، بل جعل الحقيقة ميزانه الوحيد، ولذلك أصبح مرجعًا أول لكل باحث يريد أن يفهم تاريخ المنطقة كما هو، لا كما قيل له أن يراه.
ووسط هذا كله، يبقى الامتنان أقل ما يمكن قوله: شكرًا لهذا المؤرخ النبيل، لهذا الإنسان الذي كان وفيًّا للذاكرة أكثر من كثير من أبنائها. شكرًا لعمق معرفته ولنزاهة بحثه، ولأنه حمل اسم عُمان في كتبه كما يحمل العاشق اسم حبيبته في قلبه. لقد أعاد فتح النوافذ التي أوصدها الزمن، وأضاء الطرق التي حاولت بعض القوى طمسها، وترك لنا تاريخًا يعاد اكتشافه كل يوم.
ويبقى السؤال معلّقًا، يرافق كل خطوة نخطوها نحو المستقبل: هل سنردّ يومًا هذا الجميل؟ هل سنعيد بناء ذاكرتنا بأيدينا، ونستعيد وثائقنا كما استعادها هو؟ أم سيظل التاريخ يذكر أن رجلًا من الشارقة حمل عُمان بين دفّتي كتبه قبل أن تحملها خزائن أبنائها؟
إلى أن نمتلك الإجابة، سيظل سلطان القاسمي شاهدًا على أن بعض الأصوات- حتى لو جاءت من خارج الدار- تستطيع أن ترى جمالها أكثر من أهلها، وتعيد إحياء ذاكرةٍ لم تكن تستحق أن تُترك للنسيان.
