مسقط- الرؤية
أصدرت وزارة الثقافة والرياضة والشباب العدد الثالث عشر من مجلة "الثقافة"، الذي جاء محوره الرئيسي "التعليم والثقافة والتنمية الإنسانية المستدامة"، في إطار اهتمام المجلة بتناول القضايا المعرفية والفكرية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأولويات الوطنية ورؤية عُمان المستقبلية.
ويحمل العدد الجديد رؤية معرفية معمقة حول العلاقة بين التعليم والتنمية، ويُبرز كيف يشكّل التعليم ركيزة أساسية في بناء الإنسان وتنمية المجتمعات، بوصفه حجر الزاوية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لرؤية عُمان 2040، ولا سيما في مجالات الابتكار، واقتصاد المعرفة، وتعزيز الهوية والثقافة الوطنية.
ومن أهمية التعليم هذه أصبح عملية مخطط لها بعناية كبيرة من مؤسسات المجتمع وحتى أفراده كون التعليم هو الوسيلة التي تشكل قيم الأفراد وأفكارهم ومعتقداتهم؛ أي ثقافته وبالتالي ثقافة مجتمعاتهم وكل ذلك ينتقل من خلال عملية الاكتساب المخطط لها من خلال بناء مؤسسات التعليم والتربية وحتى المؤسسات الدينية. ومن هنا وضعت رؤية عمان أولوية التعليم في طليعة الأولويات بتوجهها الاستراتيجي نحو تعليم شامل وتعلّم مستدام يقود إلى مجتمع معرفي وقدرات وطنية منافسة؛ فهي بذلك تعتبر التعليم حجر الزاوية في تحقيق التنمية المستدامة، من خلال بناء رأس مال بشري مؤهل وقادر على الابتكار والمساهمة في بناء اقتصاد متنوع مستدام، مع الحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية للأجيال القادمة.
ولقد تضمنت هذه الأولوية مجموعة من الأهداف الاستراتيجية ومن بين الأهداف الاستراتيجية: "منظومة وطنية فاعلة للبحث العلمي والإبداع والابتكار تسهم في بناء اقتصاد المعرفة". وكذلك فإن من أبرز الأهداف الاستراتيجية لأولوية "المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية": "مجتمع متمكن من تقييم المعرفة ونقدها وتوظيفها وإنتاجها ونشرها" فيأتي هذا المؤتلف إسهامًا من المجلة في تحقيق الهدفين، وتأكيد لأهمية التعليم في إنجاح بقية أولويات الرؤية وتوجهاتها الاستراتيجية وأهدافها. فلقد أكد التقرير الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة عام2014م وحمل عنوان "التنمية المستدامة تبدأ بالتعليم"، أن التعليم ليس هدفاً بحد ذاته، بل أداة لتسريع التقدم نحو الأهداف بطرق متعددة.
ولقد اشتمل العدد بأقسامه الأربعة (مؤتلف، وتسآل، وفيسفساء، وقراطيس) على ما يلي؛ حيث نؤخر الحديث عن المؤتلف لنبدأ بقسم: تسآل والذي يتضمّن حوارين مهمّين الأول حوارًا مع أجراه محيي الدين جرمة مع محمد سليم شوشة ناقشا فيه تأثيرات الذكاء الاصطناعي على اللغة العربية. والثاني مع أورهان باموق نوقش فيه مفهومه عن الأدب العالمي، والمكانة التي يحتلها هو نفسه ضمن منظومة الأدب العالمي، إلى جانب مناقشته روايته ليالي الوباء.
أما قسم فسيفساء فقد تضمن العناوين التالية: "تمثّلات الوعي بالطبيعة في الأدب العماني قراءة في نماذج مختارة من وجهة النقد البيئي" لجاسم جميل الطارشي، و"صلاح قنصوه الشخص والفيلسوف رؤية عن قرب" لسعيد توفيق، و"الثقافة الدينية وبناء التعايش نحو ثقافة جديدة" لخالد التوزاني، و"التخييل الذاتي الذات من الواحدية إلى التعدد الهوياتي في رواية خريف براغ" لعبدالرزاق المصباحي، "نظراتٌ في مستقبل الترجمة الأدبيّة باستخدام الذكاء الاصطناعي"، لأحمد بن حسن المعيني"، وختمنا هذا القسم بمقال لمجموعة من المؤلفين، وعنوانه: "أهمية الثقافة في إطار الامتثال المحلي لأهداف التنمية المستدامة إسبانيا مثالًا".
وأخيرًا فقد تضمنت قراطيس هذا العدد قراءة في كتاب إعادة اكتشاف التراث الإسلامي: كيف غيرت ثقافة الطباعة والتحقيق عالمنا الفكري لأحمد الشمسي أعدها يوسف مدراري. وتسآلًا لغابرييل روزنبرغ مع بثشبا ديموث عن كتابيها: الساحل العائم تاريخ بيئي لمضيق بيرينغ، ونهر يوكون تاريخ بيئي.
أما كتاب هذا العدد فهو للباحث العماني الموسوعي المعروف سعود بن عبدالله الزدجالي، وعنوانه في بناء الوعي السياسي الثقافة والعقيدة السياسية بوصفهما ضمانة للتنمية والاستدامة. يتساءل فيه الزدجالي عن "الدور الذي يؤديه كلُّ عنصر من عناصر التنمية؛ لتصل إلى "الاستدامة"؟ وكيف يمكن أن تتحول تلك المكونات إلى ثقافة أو سلوك أو عقيدة سياسية؟ وهل يمكن أن تكون هذه العلائق جزءًا من طبيعة التخطيط التنموي لكي تكون النتائج متسمة بالاستدامة والخصوصية؟" وحتى يجيب عن هذه الأسئلة فقد اعتمد مقاربته "الوعيَ السياسي منطقَ العلاقات بين المكونات التي من شأنها أن تشكّل منظومة الدولة من جهة، ومسارات التخطيط التنموي بكل مَدَياته، والمجتمع بثقافته وهويته وخصوصيته وتاريخه من جهة ثانية".
ولقد تضمن مؤتلف هذا العدد (والذي أعدته وأسهمت فيه الدكتورة يسرى المغيرية) مجموعة دراسات متنوعة تناولت التعليم من زوايا مختلفة وفي عدة دول. تطرح المغيرية في دراستها: "التعليم المستدام عندما يصبح الفصل الدراسي مختبرًا للحياة" كيف يمكن لفصولنا الدراسية أن تصبح مختبرات للحياة؟ وبحيث لا يقتصر تعليم طلبتنا على الحقائق والمعلومات فحسب؛ بل يتعلمون كيف يفكرون بشكل نقدي، وكيف يحلون المشكلات بشكل إبداعي، وكيف يتعاونون مع الآخرين لتحقيق أهداف مشتركة؟ لذا تسعى في مقالها لتسليط الضوء على مفهوم التعليم المستدام، وتبين كيف يمكن للفصل الدراسي أن يتحول إلى بيئة حياتية متكاملة، تتجاوز الجدران الأربعة، وتلامس نبض العالم خارجها.
وتعرف الباحثة التعليم المستدام: "نهج تعليمي يهدف إلى تمكين المتعلمين من اكتساب المعارف والمهارات والقيم اللازمة لتحقيق تنمية شاملة تراعي البيئة، والمجتمع، والاقتصاد". فيتجاوز هذا التعليم بهذا التعريف الأطر التقليدية للتعليم والتي تركز على توصيل المعارف للمتعلم، ليركّز على الربط بين التعلم بأهدافه المتعددة (المعرفية، والمهارية والوجدانية القيمية) والحياة الواقعية، ويعزز فهم الطلبة لتأثير سلوكهم على العالم من حولهم. فهو تعليم يتطلب تكاملًا بين الأبعاد البيئية والاجتماعية والاقتصادية، مما يعزز من وعي الأفراد حول القضايا العالمية والمحلية، ويسهم في بناء مجتمعات أكثر سعادة وعدلًا واستدامة. لذلك فأن هذا النهج التعليمي ليس مُجرد إضافة مفاهيم ومقولات الاستدامة إلى المناهج الدراسية؛ لكنه تحول ثقافي في الطريقة التي ننظر بها إلى التعليم والتعلم وحتى البيئة ذاتها؛ وقبل ذلك الإنسان/المتعلم انطلاقًا من رؤية أكثر علائقية بالبيئة والعالم المحيط بالإنسان.
أما في "التعليم الممنهج من أجل تنمية مستدامة ومستقبل واعد لرحمة الحارثية فتؤكد الباحثة على محورية دور التعليم في إنتاج خطط التنمية الإنسانية المستدامة وسعي الدول جاهدة لترجمة سياساتها ومبادئها وترسيخ قيمها في الأفراد والمجتمعات به من خلال العناية بمنظوماتها التعليمية وتجويدها الدائم. مؤكدة على دور ما يسمى "التعليم الممنهج" وهو بتعريف منظمة اليونسكو: "التعليم المنظم المعتمد والمخطط له مسبقًا من قبل مؤسسات معتمدة ومعترف بها من قبل السلطات الوطنية، والذي يشكل النظام الرسمي للبلاد في التعليم" حيث يعتمد على رؤية فلسفية تجعل المتعلم (كما أن الإنسان هو محور التنمية) محور العملية التعليمية، فتبنى منظومة التعليم وفق تلك الرؤية: من مناهج دراسية محددة وواضحة الأهداف، تنفذ من قبل مؤسسات تعليمية رسمية مثل المدارس والجامعات خلال مراحل تعليمية متسلسلة. وإعداد كوادر تدريسية بكفاءة عالية ومؤهلة كما ينبغي، وتبني بيئة تعليمية محفزة للطالب ومجهزة بموارد لازمة وكافية. ومن خلال ما سبق يسعى هذا التعليم لتحقيق أهداف التنمية بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، وقبل ذلك التأكيد على أن الإنسان هو المحرك الفعال لعملية التنمية بأشكالها المختلفة؛ وبالتالي يكون هو محور العملية التعليمية. ليعيش في هذا الكوكب لعيش برخاء وأمان وسلام. فيجب السعي لخلق عقول بشرية واعية؛ فهي القادرة-وحدها- على بناء مجتمع مستنير ومسؤول، ينبض بالمواطنة الصالحة.
أما الدكتورة هدى الزدجالية فتسعى في مقالها " التعليم من أجل التنمية المستدامة استراتيجية فاعلة لتطوير التعليم" إلى تحليل العلاقة بين التعليم وأهداف التنمية المستدامة، مع التركيز على الهدف الرابع المتعلق بتوفير التعليم الجيد والمنصف. ويناقش هذا المقال-أيضًا- دور التعليم في تحقيق التنمية الإنسانية المستدامة، وما يترتب على ذلك من تعزيز الوعي البيئي، وتحسين مهارات سوق العمل، وتقليل الفجوات الاجتماعية، مع الإشارة إلى التحديات التي تواجه تحقيق ذلك مثل نقص التمويل، والفجوة الرقمية، وتدني جودة التعليم في بعض دول العالم".
وترى أن هناك حزمة من الاستراتيجيات التي يمكن أن تسهم في تعزيز دور التعليم في التنمية الإنسانية المستدامة، ومنها على سبيل المثال ما يلي: مطالبة الحكومات في دول العالم بوضع التعليم كأهم أولوية في كل من السياسات والممارسات، وزيادة الاستثمار في التعليم، ودمج التعليم من أجل التنمية المستدامة في المناهج الدراسية على جميع المستويات، وسد الفجوة الرقمية بتحسين الوصول إلى التكنولوجيا، وتشكيل فريق عمل تشترك فيه مختلف مؤسسات التعليم في القطاع العام والخاص لدعم التعليم من أجل التنمية الإنسانية المستدامة.
أما مقال "التعليم والاستدامة البيئية قضايا ثقافية" لهيكارو كوماتسو وزميليه فيتناول فيه الجهود المبذول لتحقيق الاستدامة البيئية من خلال مقارنة ثلاثة مناهج تعليمية (المعرفي والسلوكي والثقافي)، مؤكدًا ومع كل الجهود المبذولة إلا أن البشر لم ينجحوا في تغيير مسارهم الكارثي؛ بتدمير البيئة وبالتالي حياتهم. ولذلك يدعو لاستكشاف مناهج تعليم بديلة أو تطوير السائد منها وتحسينه. ويختار المنهج الثقافي الذي ينطلق من فرضية، هي: إن التغيير السلوكي لعامة الناس ضروري لتحقيق الاستدامة. فيهدف المنهج الثقافي إلى إحداث هذا التغيير السلوكي من خلال تغيير الثقافة السائدة الحديثة، والثقافة السائدة تعلي من شأن الذات المستقلة وهو شكل من الذات يعمي الناس عن التغييرات البيئية السلبية ويجعلهم يركزون فقط على مصالحهم الفردية حتى لو كانت على حساب البيئة؛ لذا يشير كوماتسو ضرورة تغيير مفهوم الذات السائد من مفهوم الاستقلال إلى الاعتماد المتبادل.
أما مقال"ملبّياً متطلبات التنمية الإنسانية أيّ تعليم نريد" لماجد عبد العزيز عيسى وحتى يجيب باحثه على سؤال أي تعليم نريده في مجتمعاتنا العربية؛ فيقدم البحث دراسته بالأطوار والمراحل التي مر بها التعليم خلال مسيرة التطور البشري وتغير الظروف والسياقات المجتمعية، بدأت أولى تلك المراحل بأن كان هدف التعليم لذاته، أي الخروج من حالة الجهل وانعدام المهارات الأساسية (القراءة والكتابة والحساب). وفي مرحلةٍ ثانية أصبح التعليم يمنح المتعلمين المكانة والمستوى الاجتماعي. ومع تعقّد المجتمعات وتطورها وزيادة الإقبال على العمل المنظّم المهيكل المتسّم باشتراطات ومعايير ومتطلبات سابقة لا تتحقق إلا بالتعليم، بدأت مرحلة ثالثة ربطت التعليم بالعمل. وصولاً إلى المرحلة الرابعة التي تقدّمت فيها عديد من المجالات المجتمعية على حساب مجال التعليم، وأصبح لزامًا أن يحدث التطوّر والتحوّل في التعليم من أجل مواكبة ومجاراة التحديثات المتنامية. لذلك يرى أنه من أجل أن ندرك حجم الفجوة بين الواقع والمأمول في التعليم، ينبغي الإجابة عن سؤالين: الأول ما متطلبات التعليم في الألفية الثالثة؟ والثاني: ما واقع حال العالم العربي في التعليم؟ مع ربط المجالين بمتطلبات تحقيق الأهداف للتنمية الإنسانية المستدامة. يخلص في خاتمة المقال إلى جملةٍ من المقترحات والتصورات تجيب عن السؤالين وتلبي متطلبات التنمية المستدامة في الأبعاد التعليمية بمستوياتها المختلفة، نذكر أبرزها فيما يلي: إعادة ترتيب الأولويات وأن يكون الإصلاح الشامل المتزامن المتكامل. مع الحاجة لإعادة النظر الجذرية في توزيع الطلبة على المسارات ما بعد المرحلة الإلزامية والتوّسع التدريجي في زيادة أعداد الملتحقين بالتعليم التقني والمهني. والخروج من المفهوم التقليدي للتخصص إلى نواتج تعليمية عملية وقابلة للتغيير والتطوير، وخلق فرص وظيفية لها عبر تشجيع إقامة المشاريع الإنتاجية. وربط البحث العلمي بمتطلبات المجتمع المتنامية مع ديمومة تمويله. وأخيرًا فلا بد من استقلالية حقيقية للتعليم العالي مع الإعلاء من الحريات الأكاديمية.
وتنطلق إشكالية دراسة محمد جليد "الجامعة العربية من أحادية مصدر المعرفة إلى شرط الانفتاح المعرفي" من التحدي المزدوج الذي يواجهه التعليم الجامعي العربي؛ إنه معادلة صعبة كما يصفها جليد بين "مواصلة الأصالة الحضارية التي تتوارث هوية وقيمًا وتقاليد خاصة، مقابل انفتاح منتج على الحضارات والثقافات العالمية المختلفة". وتطرح ما يلي من أسئلة: هل يستطيع التعليم الجامعي العربي أن يحقق التوازن المعرفي المطلوب بين التأصيل الثقافي والحضاري من جهة، والانفتاح النقدي على مصادر المعرفة والخبرات العالمية المتعددة (لا الغربية وحدها، بل الكونية) من جهة أخرى؟ وما السبيل إلى تحقيق هذا التوزان؟ وما هي الآليات المنهجية والتربوية المقترحة لضمان أن يدعم هذا الانفتاح التثاقف الإيجابي المنتج، ويعزز قدرة الطلاب العرب على المساهمة في النهضة العربية، بوصفهم مواطنين عالميين فاعلين في إنتاج معرفة، لا مجرد مستهلكين لها؟
وفي ختام دراسته بلور الباحث مجموعة من التوصيات يرى أنها تسهم في تحقيق مسعى انتقال الجامعات العربية من الاكتفاء بالاستهلاك إلى الإسهام في إنتاج المعرفة العالمية. من خلال مراجعة المقررات على أساس تعدد مصادر المعرفة، عبر دمج نصوص من التراث العربي والإسلامي والجنوب العالمي، والحد من هيمنة المصادر الغربية. ثانيًا، مأسسة الكفايات الثقافية التي قوامها مهارات الحوار النقدي والتعاطف المعرفي والوجداني، وتعميم برامج التعليم التعاوني الافتراضي العالمي بين الطلاب. ثالثًا تخصيص جزء من ميزانيات البحث لدعم فرق بحثية تعمل مع شركاء آسيويين وأفارقة وأمريكيين لاتينيين. رابعًا، تطوير منظومة حوافز تربط الترقيات الأكاديمية ونظم تقييم جودة البحث؛ بتأثير البحث في التنمية الإنسانية المستدامة، وقدرته على إنتاج معرفة أصيلة بالتعاون مع جهات دولية متنوعة.
أما بحث "التعليم والعلوم اتجاهات تطوير القدرات البشرية في روسيا" لأستاذ الاقتصاد بجامعة موسكو الحكومية إ.مولتشانوف فيهدف إلى دراسة السياسات والإجراءات الحكومية والتي من شأنها توظيف الإمكانات البشرية وزيادة فعالية نشاط مؤسسات التعليم العالي في قضايا تنظيم الكوادر العلمية بعدها القوة الدافعة للمجتمع وتقدمه، وتأكيد دور رأس المالي البشري بعده موردًا أساسيًا في الحفاظ على قدرة المؤسسات الاقتصادية على التنافس وضمان معدلات نمو عالية اقتصاديًا. وحتى يحقق البحث الهدف منه أجرى الباحث تحليلًا مقارنًا للإنجازات التعليمية والعلمية لسكان دول مجموعة البريكس مع روسيا، ودراسة معمقة للجوانب الرئيسة في التعليم والبحث العلمي، واستنتاج مجموعة توصيات لتحسين الوضع في روسيا في مجالات التمويل والإدارة والنظرة إلى البحث العلمي.
وكان من أبرز التوصيات دعوة الباحث المؤسسات العلمية في روسيا حتى تنجح في تحقيق أهدافها؛ أن توازن أدائها على المستويين القطاعي والجغرافي، ومع التفعيل النشط للوسائل والأدوات المبتكرة في التنظيمين الاقتصادي والمالي. وبناء الأسس التنظيمية للأنشطة التعليمية والعلمية وفقًا لما يسميه المنهجية النظامية، والذي يعني في هذا السياق على أنه التوازن الداخلي والخارجي للأداء، وتنسيق السياسات، وفعالية الإدارة، والسعي لتحقيق النتائج المطلوبة. أما الجانب الأكثر أهمية-من وجهة نظر الباحث- في مشكلة الكوادر في مجال العلوم فهو البحث عن سبل رفع جاذبية المسار العلمي للشباب؛ فيدعو إلى وضع سياسة على مستوى الدولة لتحفيز الشباب لدخول هذا المجال من خلال التأكيد على جودة التعليم وتنظيم الوظائف التي تتناسب مع مخرجات مؤسسات البحث العلمي.
وفي دراستها "التنمية المستدامة في نظام التعليم في المنطقة العربية" واستنادًا على مجموعة كبيرة من الدراسات تؤكد مريم الخطيب أهمية الرفاه النفسي والاستدامة في أية عملية لإصلاح التعليم وتجويده لبناء الإنسان. وفي عالمنا العربي هناك فجوات كثيرة ما تزال قائمة تثبط من جهود تطبيق ما يتعلق بهذين المفهومين من برامج عبر مختلف السياقات التعليمية. لذلك سعت في بحثها هذا إلى سد تلك الفجوات عبر اقتراح إصلاحات تُعلي من شأن الرفاه النفسي والاستدامة في ميدان التعليم، وتسهم في تحسين نواتجه. ولقد وظفت الباحثة مجموعة من الأساليب البحثية شملت دراسات الحالة، ومراجعات الأدبيات، والتحليل المقارن، والتجارب الشخصية؛ مع الارتكاز على تحليل مفهوم ثقافة العقلية الجامدة وثقافة العقلية النامية، وتوظيف الفارق بينهما في تحليل عناصر المنظومة التعليمية في البلدان العربية. فخلصت إلى أنه وحتى نلمس تحسنًا في منظومة التعليم فلا بد من التركيز على رفاه الطالب وتنميته في سنّ مبكرة من أجل إعداد أفراد واثقين مستقلّين في اتخاذ القرار وقادرين على القيادة. وإصلاح نظام التقويم المعتمد على الاختبارات المعياريّة ونهج التلقين إصلاحًا جوهريًّا. وتطبيق التعلّم الاجتماعي-العاطفي، ومنهج الإصلاح في مشروع «تمام»؛ لتعزيز رفاه الإنسان وعقليّة التطور. وأخيرًا تدعو الباحثة المعنيين بالتعليم وواضعي سياساته إلى معرفة أين وكيف تخصص موارده وتستخدم على الوجه الأمثل.
وآخر هذا المؤتلف "دراسة مقارنة للإصلاحات التعليمية التي قادها تشارلز ويليام إليوت وطه حسين" لحامد عبد الرحيم عيد؛ حيث تغوص هذه الدراسة في أعماق الفلسفتين التربويتين اللتين صاغهما عملاقا الإصلاح التعليمي: تشارلز ويليام إليوت في أمريكا، وطه حسين في مصر. ورغم تباعد السياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي نشطا فيها، تكشف المقارنة عن التزامٍ مشتركٍ بثلاثة أركان: تحديث التعليم كمدخلٍ للنهضة، وترسيخ التفكير النقدي بديلاً عن التلقين، وتوسيع حق الوصول إلى المعرفة. وهذه المقارنة تعد دراسة فريدة في موضوعها؛ فبينما كُتب الكثير عن كل مُصلحٍ على حدة، تقدم هذه الورقة رؤيةً ثنائيةَ الأبعاد تُجيب عن سؤال محوري: كيف تُترجم المبادئ العالمية للإصلاح (كحرية المناهج، والعدالة المعرفية) عبر حواجز الثقافة والزمن؟ ويشير مؤلفها إلى ما واجهه المصلحان من تحديات اجتماعية وثقافية وفكرية وتمويلية. مع ذلك حقق الرجلان نجاحات كبيرة في بلديهما أمريكا ومصر لا زالت تذكر حتى الآن ويمكن الإفادة منها في العملية التعليمية في وقتنا الحاضر؛ وذلك يرجع إلى طبيعة ما أرسياه من رؤى تعليمية قابلة للتطبيق، والتي تُعدّ ذات صلة خاصة بالأنظمة التعليمية والاجتماعية التي تواجه تغيرًا سريعًا والحاجة إلى الابتكار كما هو الحال في وقتنا الحالي، فأليوت أرسى ما يلي: مبدأ قابلية المناهج الدراسية للتكيف والتعلم الموجه نحو المستقبل، والتعليم والتمكين المتمحوران حول الطالب، والقيادة المؤسسية والتغلب على مقاومة التغيير. أما طه حسين فقد قدم للتعليم المصري رؤىً عميقة، ناسبت غمار سياقات ما بعد الاستعمار، والتفاوتات الاجتماعية، والهوية الثقافية والتي كانت تعيشها مصر. فقد عمل على دمقرطة التعليم بالوصول الشامل له كحق عام ومجاني. وتحديث التعليم المصري بالإفادة من الخارج، مع تعزيز جذوره العربية والإسلامية في آن واحد. وتأكيده على المرونة والإصلاح الهادف في ظل عدم الاستقرار، وضرورة امتلاك القادة التربويين رؤيةً راسخةً وعزيمةً قويةً في ظلّ الظروف الصعبة. وجعل الحوار بين الثقافات إطار عمل لبناء الإصلاحات التعليمية.
وفي ختام هذا المفتتح نشير إلى أن تجربة التعليم في سلطنة عمان حققت خلال العقود الماضية الكثير من التطور والذي نقيسه من خلال تغير الكثير من الرؤى والمفاهيم الخاصة بمفهوم التعليم ذاته؛ فانتقل من التعليم التقليدي حول المعلم فيكون ناتج التعليم وغايته الكبرى هو نقل المعارف والأفكار إلى المتعلم؛ إلى تعليم يجعل المتعلم هو محور العملية التعليمية؛ فيكون التركيز على بناء شخصيته المتكاملة. مع ذلك فهناك الكثير مما ينبغي العمل عليه خلال السنوات القادمة. من ذلك تأكيد أن التعليم عملية منظومية؛ فبالتالي هو مسؤولية مشتركة بين الأساتذةٍ وأولياء أمور الطلبة وصانعي القرار وواضعي السياسات وحتى المتعلمين أنفسهم.
