أعرني كتفك

 

 

 

جاسم بن عيسى القرطوبي

في مجلس عزاءٍ واساني حديث مع أستاذي ومديري في مراحلي الدراسية الأستاذ محمد بن عبدالله بن حمدان البريكي، الذي وآسى جروح ذكرياتي بمواقف الترابط والتلاحم والتماسك بين أفراد القرية، وقد حدثني عن حانوت والده الذي لطالما كانت بضاعته قهوة للمارّ والزائر أكثر من كونها محلًا للبيع والشراء، وانتقلت بي الذكرى لرجل يبعد عن منزلي حوالي 40 كيلومترا عندما استوقفني لأوصله من الشارع لمكان قريب، وعندما سألني عن قريتي، استغربتُ أنه يعرفها جيدًا ويعرف سكانها؛ بل ويعرف جدي، ولما رأى استغرابي ردَّ علي بلهجة عُمانية قديمة: يا ولدي؛ كنَّا نركب البعير ولم تنقطع الزيارة وأما الآن فلديكم السيارات وانقطعت الزيارات.

فسأل قلمي متذكرا كيف كان أهل القرية سابقاً يقولون: أعرني كتفك، أي بيتك وطريقك ودابتك ومالك ليحدث التكامل الحياتي بيني وبينك ماديا ومعنويًا. وحيث يرى ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن العصبة هي أساس تماسك المجتمعات، فهي الرابط الذي يحمي ويقوّي الجماعة ويجعل التعاون قيمة مركزية في حياة الناس.

وعلى الجانب الآخر، يقدم عالم الاجتماع البولندي (زيغمونت باومان) رؤيته للعصر الحديث في كتابه السيولة حيث يؤكد أن عالم اليوم يتسم بالعلاقات السريعة والهشة تلك التي تتكون بضغطة زر وتختفي بضغطة أخرى. في المجتمع السائل – وهو المجتمعُ الذي يفتقد إلى الثبات والاستقرار في القيم والعلاقات والهويات والمؤسسات - تصبح الروابط قابلة للتبدل مثل المنتجات، ويصبح الإنسان محاطًا بالكثير من الاتصال والقليل من التواصل الحقيقي.

إذن.. العلاقات اليوم ليست أضعف بالضرورة، لكنها مختلفة. المدينة لم تعد تشبه القرية، والجيرة لم تعد تشبه الحي القديم، والتواصل لم يعد حكرًا على اللقاء المباشر. لكن تظل قيمة الدفء الإنساني ثابتة: تلك التي تحدّث عنها ابن خلدون في مفهوم العصبة، والتي يفتقدها باومان في زمن السيولة.

لستُ هنا أقول إن مجتمعنا العُماني ليس محافظا على هذه الأواصر؛ بل أعاتب بني جيلي نزولهم عن جبال هذا الترابط والتلاحم إلى سهولها مقتصرين بتواصلهم مع أرحامهم وبعضهم فقط برسائل (الواتساب)؛ بل بعضهم (بالإيموجيات) فحسب؛ فأصبح كل فرد منهم محاطا بشاشته، يتواصل كثيرًا ويتفاعل قليلًا، يرسل (إيموجي) تعاطف بدل زيارة، ويؤجل اللقاء الحقيقي بحجة الانشغال، وبين ذاك وهذا ربما تنطفئ شمعة لم تنفعنا فلسفة العصبة والسيولة في الحفاظ عليها.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z