وهم الحرية في زمن العزلة

 

 

 

منى قابل

 

«اركض حُرًّا هكذا، بلا أصدقاء أو قصة حب أو أمل».

عبارة تجوب شوارع السوشيال ميديا كريحٍ باردةٍ تهبّ على أرواحٍ أنهكها الخذلان، تُقال وكأنها نشيد للحرية، لكنها في جوهرها دعوة صريحة للفناء.

تُغلّف هذه الأقوال نفسها بغلالة من القوة الزائفة، وتسوّق للوحدة كعلامة على النضج، وللانعزال كطريقٍ إلى السلام الداخلي، بينما هي في حقيقتها بابٌ خلفيٌّ للاكتئاب، وملاذٌ خادع لليائسين من دفء الآخرين.

لقد غدت المنصّات الرقمية اليوم أشبه بغرفٍ مغلقةٍ يتردّد فيها صدى فكرةٍ واحدةٍ خطيرة: أن الإنسان مكتفٍ بذاته، وأن الآخر عبءٌ لا ضرورة له.

لكن التاريخ الإنساني، والعلم، وحتى الفطرة، تقول العكس تمامًا.

منذ بداية الخلق، لم يُخلق الإنسان ليكون وحيدًا.

وحين أسكن الله آدم الجنة بكل نعيمها، لم يتركه وحيدًا، بل خلق له حواء، لا لتملأ فراغ المكان، بل لتكمل معنى الوجود.

الخلق نفسه بدأ بحوار، لا بصمت، والوجود بدأ بعلاقة، لا بعزلة.

يقول ديستويفسكي: «الجحيم هو العجز عن الحب.»

ويقول ألبير كامو: «لا تمشِ خلفي، ولا أمامي، امشِ إلى جانبي وكن صديقي».

بين هاتين العبارتين تختصر الإنسانية جوهرها: لا تُعرَف بالاستقلال، بل بالاتصال، ولا تُقاس بالمسافات التي نبتعدها عن الناس، بل بالقلوب التي نقترب منها بصدق.

في فيلم “Cast Away”، ينجو البطل من تحطم الطائرة ليجد نفسه على جزيرة مهجورة. بلا بشر، بلا أصوات سوى صدى أنفاسه. ومع مرور الأيام، يصنع من كرةٍ صديقًا أسماه «ويلسون» ليحدثه. لم يكن ذلك جنونًا، بل استجابة طبيعية لفطرةٍ لا تحتمل العزلة. وعندما جرفته الأمواج بعيدًا عنها، بكى كما لو أنه فقد جزءًا من روحه.

لم يكن ينوح على الجماد، بل على صوته الإنساني الذي غرق معه.

العلم نفسه يؤكد ما قاله الشعراء والأنبياء والفلاسفة منذ قرون: أن الإنسان كائنٌ اجتماعي لا يمكن أن يعيش بلا وصل.

في دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2023 على مدى ثمانين عامًا، وُجد أن العلاقات الاجتماعية القوية هي العامل الأكثر تأثيرًا في السعادة وطول العمر، بينما كانت العزلة الاجتماعية من أهم أسباب الاكتئاب واضطرابات الذاكرة وأمراض القلب.

وتُظهر الأرقام ما تقوله الفطرة ببساطة: إن الوحدة تُمرض الجسد كما تُنهك الروح.

الصداقة ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية. والحب ليس ضعفًا، بل طاقة تُبقي القلب نابضًا. والأمل ليس ترفًا فكريًا، بل الأكسجين الذي تتنفس به الروح. بدونه، تُصبح الحياة رمادية، والنهارات متشابهة، والعقل سجينًا لصوته الداخلي المتعب.

الوحدة، وإن بدت في البداية سلامًا، تُصبح جدارًا من صمتٍ يعزلنا عن الضوء.

العلاقات السليمة هي المرايا التي نرى فيها ذواتنا الحقيقية، من خلالها نعرف أننا ما زلنا بشرًا قادرين على العطاء، وأن فينا ما يستحق أن يُحبّ.

فيا من صدّقوا تلك الأقوال التي تمجّد الوحدة، اعلموا أن الانعزال لا يمنحكم نقاءً بل يُطفئ فيكم الحياة، وأن الهروب من الناس ليس شجاعةً بل خوفٌ متنكّر في هيئة الحكمة.

لكن.. كيف نكسر وهم العزلة؟

  1. أعد اكتشاف دفء البشر: تواصل مع من تحب حتى إن خفت الرد، فالكلمة الطيبة بداية حياة جديدة.
  2. اختر الصداقات التي تشبه ضوء الصباح: لا تُكثر العلاقات، بل طهّرها من الزيف. فالصديق الحقيقي مرآة لا تُكسر.
  3. افتح قلبك للحب من جديد: لا تخف من الانكسار، فالقلب الذي لم يُختبر لا يعرف قوّته.
  4. تمسّك بالأمل: الأمل لا يغيّر الواقع فورًا، لكنه يمنحنا القوة للاستمرار حتى يأتي التغيير.
  5. مارس الوجود الحقيقي: شارك، تفاعل، ساعد، وكن سببًا في ابتسامة أحدهم. فالنجاة في المشاركة لا في الانعزال.

وأخيرًا.. الوحدة ليست حرية؛ فالحرية الحقيقية هي أن تملك قلبًا مفتوحًا لا يخاف الحب، وعقلًا يؤمن بأن العطاء لا يُنقص، وأن الإنسان لا يكتمل إلا بإنسانٍ آخر.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z