عُمان.. طبقات من التاريخ تتقدم معنا

عباس المسكري

 

على امتداد هذا الوطن، تبدو السنين وكأنها طبقات من المعنى أكثر مما هي تواريخ جامدة، فالعلاقة بين العُماني وأرضه ليست علاقة انتماء طارئ أو تشكّل سياسي حديث؛ بل هي امتداد طويل لتجربة بشرية تراكمت فيها الحكمة، وتكوّنت فيها ملامح دولةٍ استطاعت عبر الزمن أن تحفظ لنفسها هويتها ونسقها الخاص، وعندما نتوقف اليوم عند مرور 281 عامًا على تأسيس الدولة البوسعيدية، فإننا لا نفعل ذلك من باب الاحتفاء بسنة مضت؛ بل لأن هذا التاريخ يمثل لحظة مفصلية أعادت تنظيم الوعي الوطني، ورسمت الإطار الذي ستتشكّل داخله الدولة العُمانية الحديثة لاحقًا.

لقد جاءت الدولة البوسعيدية في منتصف القرن الثامن عشر استجابة لضرورة تاريخية، ضرورة إعادة بناء المركز السياسي، وترميم ما تفتته الصراعات، واستعادة الدور الذي لعبته عُمان في محيطها الطبيعي، لم تكن تلك مجرد مرحلة حكم جديدة؛ بل كانت إعادة تثبيت لفكرة الدولة ذات الامتداد، إذ أعادت رسم العلاقة بين العُمانيين وأرضهم، ورسّخت نمطًا من السياسة يقوم على التوازن والعقلانية والانفتاح المحسوب، وما زالت كثير من ملامح تلك البدايات حاضرة في الشخصية السياسية لعُمان اليوم.

ثم جاء فجر عام 1970 ليمنح الدولة العُمانية نقلةً لم تعرف البلاد مثيلًا لها في تاريخها الحديث، ففي عهد السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- لم تكن النهضة مجرد مسار تنموي أو تحديث إداري؛ بل كانت إعادة صياغة شاملة لأسس الدولة والمجتمع، فقد انطلقت عُمان من وضعٍ شديد التحدي نحو دولة مؤسسات مكتملة الأركان، تُبنى فيها الطرق والموانئ والمستشفيات والمدارس بوتيرة غير مسبوقة، وتُعاد فيها قراءة دور الإنسان العُماني بوصفه المحرك الأول للتغيير.

كانت تلك الحقبة انتقالًا جذريًا من مرحلة ما قبل الدولة الحديثة إلى دولة ذات حضور إقليمي ودولي مؤثر، تُدار بعقلانية سياسية وتوازن دبلوماسي نادر، وقد استطاع السلطان قابوس أن يُقيم نموذجًا تنمويًا يستوعب الحداثة دون أن يفقد الهوية، ويُشيد بنية تحتية ومعرفية واقتصادية أصبحت الأساس الذي تقف عليه عُمان اليوم، إنها نقلة لم تكن تنمية فقط؛ بل كانت تأسيسًا جديدًا لعُمان المعاصرة.

واليوم، في عهد النهضة المتجددة تحت قيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- تبدو عُمان وكأنها تُعيد قراءة تاريخها الطويل لتُعيد ضبط إيقاع حركتها نحو المستقبل، فالتحديث الذي تشهده البلاد ليس قطيعة مع ما سبق؛ بل هو امتداد واعٍٍ له، يقوم على مراجعة البُنى، وإعادة ترتيب الأولويات، وتهيئة الدولة لمرحلة اقتصادية وإدارية مختلفة، تتسع للتحوّلات العالمية وتتكيّف معها ، إنها حقبة تسعى فيها عُمان إلى أن تحتفظ بثباتها الداخلي، بينما تنفتح على آفاقٍ اقتصادية وتكنولوجية جديدة، دون أن تفقد نبرة التوازن التي عُرفت بها.

ليس الوطن فكرةً مجرّدة؛ بل هو تاريخ يتراكم، وتجربة تُصاغ على مهل، ووعيٌ جماعي يتشكّل عبر الأجيال، وعُمان بما تحمله من عمقٍ حضاري يمتد لآلاف السنين، تُعلّمنا أن الدولة ليست مجرد نظام سياسي؛ بل هي سياقٌ طويل من القيم والممارسات والمعاني التي تتجدد مع كل حقبة، ولا تنفصل يومًا عن جذورها.

وفي هذا السياق الزمني العريض الذي يبدأ من حضارات قديمة ويمتد حتى الدولة البوسعيدية والنهضتين المتعاقبتين، تبدو عُمان كأنها تسير بثقة في طريقٍ تعرفه، طريق لا يلغيه الزمن؛ بل يزيده رسوخًا، ولهذا فإنَّ الاحتفاء بمرور 281 عامًا على تأسيس الدولة البوسعيدية ليس وقوفًا عند الماضي؛ بل هو قراءة لطبقة أخرى من طبقات الدولة، طبقة ساهمت في تشكيل حاضرٍ ما زلنا نكتبه، ومستقبلٍ نقترب منه بثبات وإيمان بأنَّ الوطن أكبر من سنة تُذكر، وأعمق من تاريخٍ يُحتفى به، لأنه باختصار، وطنٌ يتقدّم معنا، ولا يتوقف عند زمنٍ واحدٍ.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z