الهروب الكبير!

 

 

مدرين المكتومية

عندما يعيش أحدنا تحت ضغط دائم ومُستمر، يستيقظ صباحًا وهو مثقل بالكثير من الأعباء والالتزامات والظروف القاسية الصعبة، لكنه سرعان ما يتجاوز ذلك كونه يدرك إدراكًا تامًا أنه لا مفر، وأن ما هو عليه قدري، وربما هو الطريق نحو الخلاص، فبمجرد أن يفكر أحدنا بأنَّ هناك وميض أمل بأنَّ الحياة ستتغير وستصبح الأحلام الوردية واقعاً وتحل مكان التعاسة سعادة مطلقة، هذا هو بالضبط ما نسميه الإرادة.

وتعد الإرادة واحدة من أعظم القوى التي يمتلكها الإنسان، فهي التي تصنع من الفكرة واقعاً ومن التحديات فرصاً ومن الأحلام إنجازات عظيمة لا حصر لها، وكل ذلك يأتي من قدرة الإنسان على امتلاك واستشعار تلك الطاقة الكامنة في "الإرادة".

ومن بين التجارب التي يمكن ذكرها قصة رجل الأعمال اللبناني كارلوس غصن التي تعد رحلة جريئة ومجنونة والتي وصفت أيضًا بأنها "هروب القرن"؛ حيث استطاع الهرب من اليابان في صندوق خاص بالآلات الموسيقية، ساعده في ذلك الأب والابن مايكل وبيتر تايلور حيث كانا ينتحلان صفة موسيقيين؛ حيث قاما بنقله من الفندق إلى المطار. المخاطرة التي قام بها وتعد أمرا جنونيا أن يقدم على ذلك، لكن هناك نوع من الأشخاص الذين يمتلكون إرادة قوية تجعلهم يقدمون على أصعب الخطوات التي قد تكون نهاية حياتهم، وذلك لأنهم يعتقدون أن الحياة تحتاج لمغامرة، وكما يُقال "الغريق لا يخاف من البلل".

وعند التفكير في هذه الخطوة التي قد يقوم بها الشخص والتي قد تكلفه حياته ربما هي رد اندفاعي اتجاه قرار يقدم عليه من أجل استعادة حريته وكرامته وربما استعادة شيء ما قد أخذ منه أو يتمنى الحصول عليه، وأيضا هي إثبات لقدرة الشخص على تجاوز الظروف الواقعة عليه دون اختيار، فالمخاطرات الكبرى مهما كانت إلا أنها تجسد دائمًا فكرة الإرادة الذاتية التي لا تؤمن بالخضوع وترفع من وعي الإنسان الذي يرفض أن يكون أسيرا لطريق مُعين ولرحلة معينة ولأحكام مسبقة.

الإرادة في جوهرها ليست مجرد رغبة في التغيير، أو البحث عن بدائل أو ترك التذمر، أو كراهية لواقع معين، وإنما هي منظومة متكاملة من الإيمان بالذات، وانضباط ورؤية واضحة قادرة على تحمل النتائج، هي قوة الإنسان الثابتة عندما تضطرب الأوضاع والظروف والعقلانية وسط الرياح العاتية، وهي التصرف الصحيح رغم كل الأخطار المحيطة بالشخص، ومن دون هذه القوة في الإرادة تبقى الأفكار معلقة والطموحات مشتتة بلا اتجاه والأحلام مؤجلة لوقت غير معلوم، وما أحوجنا اليوم إلى أن نعيد ترسيخ مفهوم الإرادة في حياتنا ومجتمعاتنا بحيث لا تكون صفة فردية وإنما طاقة جماعية بناءة تدفع بعجلة التنمية والإبداع وتسهم بصورة فاعلة ومتوازنة في الرقي بالمجتمع من خلال رفع إنتاجيته، فالمجتمعات التي تنهض لم تنهض بفعل المعجزات بل بالإرادة القوية الواعية التي تؤمن إيماناً تاماً بأن النجاح يحتاج لانتزاع بالعمل والإصرار والإيمان الدائم بالمستقبل.

إنني أؤمن أنَّ استبدال مفاهيم الإحباط والانكسار والخوف والعجز بمفاهيم الطموح والاجتهاد والمثابرة والإصرار والعمل الواعي هو ما يجعل الحياة أكثر نضجاً واتزاناً، فكما نعلم أكثرنا أن الحياة ليست بما يحدث لنا؛ بل بكيفية استجابتنا له، ومدى قدرتنا على تحويل التحديات إلى فرص للنمو والتجدد.

الأكثر قراءة