الصياد والفريسة وحدود لا تُخترق

 

 

 

د. هبة محمد العطار

 

في حياة البشر، تتحرك النفوس؛ ما بين صيَّاد وفريسة، وقوة وضعف، بين طموح وانقياد؛ فلكل إنسان الحق أن يكون صيادًا، وأن يخطط، وأن يسعى، وأن يصنع فرصه بنفسه، وأن يختار الطريق الذي يراه صحيحًا في عالم معقد يزدحم بالخيارات والمغريات. لكن في الوقت ذاته، كل واحد منا معرض لأن يصبح فريسة، وأن يُخدَع، وأن يُستغَل، وأن يُستَدْرَج إلى لُعبة لا يريدها، حيث تتقاطع المصالح، وتتبدل الولاءات، ويصبح الإنسان أحيانًا ضحية لجهل الآخرين أو لمكرهم.

ولكن الأخطر من الفريسة، هو أن يتحول الفرد إلى كائن يلهث وراء الفريسة التي أسقطها الصياد، ليأتي له بها بين يديه، فيبيع كرامته، ويخضع للإملاءات، ويصبح أداة بلا روح، وبلا ضمير، وبلا جوهر. هذا السلوك ليس مجرد خيانة للآخرين؛ بل خيانة للذات؛ إذ تُمحى الحدود بين الإنسان وما يفعل، ويصبح كل فعل خاضع للإلحاح أو الطمع، بلا وعي ولا قيم. والإنسان حين يقدّم نفسه كأداةٍ، يبيع حريته، وينقض مبادئه، ويصبح أسير لعبة لا يملك فيها اختيارًا حقيقيًا.

وأخلاق البشر لا تُقاس بالذكاء أو بالقوة فقط؛ بل بقدرتهم على الصمود أمام الفخاخ، وعلى الحفاظ على شرف النفس، وعلى رفض أن تتحول الحرية إلى عبودية، والكرامة إلى سلعة تُباع وتُشترى. فالانقياد الأعمى، والتنازل عن المبادئ، لا يضعف الآخرين فقط؛ بل يدمّر الداخل الإنساني، ويحوّل الشخص إلى نسخة باهتة من ذاته، خالية من الصدق والوعي.

الحياة لا تعاقب الصياد ولا الفريسة؛ بل تعاقب الكائن الذي يلهث، وكل من يُفَرِّغ نفسه من روحه ليصبح أداة في لعبة الآخرين، من يختار الخضوع بدلًا من المواجهة، ومن يُقدِّم كرامته مقابل وهم مؤقت. الصياد والفريسة جزء من دورة الحياة، أما الكائن الذي يلهث ليأتي بالفريسة فهو من يُفرّغ روحه ويخسر جوهره. وكل مرة يختار الإنسان أن يكون هو نفسه، يبني حدودًا يحمي بها ذاته ويصون قيمه، يثبت أنه قادر على مواجهة الاختبارات الكبرى، وأن وجوده ليس عرضًا أو أداة، بل فعل واعٍ ومختار.

الاحترام، والمبادئ، والشجاعة في رفض الانقياد، والصدق مع النفس، والوعي بالحق والباطل، هي ما يصنع الإنسان الحقيقي. والإنسان الذي يبقى كاملًا، متماسكًا، عميقًا في وعيه للحق والباطل، قادرٌ أن يعيش حُرًا، وصيادًا أو فريسة، لكنه أبدًا لن يكون هذا الكائن الذي يلهث وراء الفريسة؛ فالحرية والكرامة لا تُمنَح؛ بل تُصان، والوعي بالنفس هو ما يجعل لكل إنسان وجوده الحقيقي، وهويته العميقة، ومعناه في هذا العالم.

والحقيقة الأعمق هي أن الحياة تمنحنا الفرص لنكون شبه كاملين؛ لنواجه أنفسنا قبل الآخرين، لنختار بين أن نكون أداة أو أن نكون فاعلين، بين أن نخسر جوهرنا أو أن نحميه.

والوعي بهذه الخيارات، والقدرة على المقاومة، هما ما يصنعان الإنسان الذي لا يخضع للظروف، ويبنيان الإنسان الذي يظل حُرًا في قراراته، ويُساندان الإنسان الذي يحافظ على كرامته مهما تبدلت الأدوار، ومهما تقلبت الظروف، ومهما تغيرت قواعد اللعبة من حوله.

الأكثر قراءة