"فلنزهر حيثما زُرِعنا"

 

هلال بن سعيد بن حمد اليحيائي **

 

كم نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى فترة تنوير للعقول، ورفعٍ للهمة، وإزالةٍ للشكوك والهموم التي تثقل كاهل الإنسان العربي، ذلك الإنسان الذي يعيش تحت وابل من المحتوى المتدفق، الذي في كثيرٍ منه لا يُصلِح بل يُفسِد العقول، خصوصًا عقول الشباب من طلابٍ وباحثين عن عمل وموظفين ورواد أعمال لقد جاءت ثورة التقنية وسهولة التواصل وسرعة انتقال البيانات- خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي- لترسم، بكل أسف، صورة قاتمة وسوداوية تُشخّص واقعنا على أنه بيئة طاردة للمواهب، وغير جاذبة للاستثمار، وأن القوانين في أغلبها ليست في صالح الناس.

في كتاب "لقطات من العقل" للكاتب الأمريكي وعالم النفس الإدراكي جاري كلاين وهو عبارة عن لمحاتٍ أو لقطات من الحياة العملية، جاءت نتيجة عملٍ متواصلٍ لمدة ثلاثين سنة في دراسة القرار الطبيعي في الحياة الواقعية، أي طريقة تفكير الناس في الواقع وكيفية اتخاذ القرار في المواقف المعقدة والغامضة ، وخلاصة ما أراد أن يوصله جاري كلاين هو أن الذكاء الحقيقي لا يُقاس بالامتحانات، بل بالقدرة على الفهم والملاحظة والتصرّف السليم في المواقف الصعبة والمعقدة؛ فالخبرة والمرونة الذهنية هما الركيزتان الأساسيتان في التعامل مع متغيرات الحياة، ومنها في إحدى لقطاته الذهنية، تحدّث الكاتب عن أحد المفاهيم الخاطئة التي ينبغي تصحيحها، وهي عبارة "اتبع شغفك"؛ إذ كثيرًا ما يتمّ الإشارة إليها في الخطب الطلابية في المدارس والجامعات، أو من خلال برامج التحفيز الذاتي والخطب الجماهيرية التي تحثّ على الذكاء والمثابرة والتفاني في الحياة. ويعتقد الكاتب جاري كلاين أنّ هذه العبارة سلبية ومحبِطة للناس، وقد أشار إلى مجموعةٍ من الأسباب أو التحديات، منها قلّة الخبرة؛ فالطالب الذي تخرّج حديثًا وما زال يعيش في الأمنيات التي كان يردّدها منذ طفولته، عليه أن يدرك أنّ تحقيقها يتطلّب منه الجهد والعمل والمثابرة في الحياة الواقعية فحينما كان يُسأل في صغره: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟، كان يجيب مثلًا: طبيبًا، أو مهندسًا، أو طيّارًا، ولكن هذه الوظائف تحتاج إلى جهدٍ ومثابرةٍ وتفانٍ في الحياة العملية، ولا يمكن الوصول إليها بمجرد الشغف أو التمنّي .

وهناك تحدٍ آخر، وهو الجهل الذي يبقى الشاب يعيش معه، فيحمل شغفًا ورغبة في إيجاد مسار وظيفي لا يرضي سقف توقعاته، وقد يأخذ هذا البحث سنواتٍ أو عقودًا من عمره تائهًا حتى يجده. وكل ما يُطرح عليه من مساقاتٍ مهنية يرفضها بحجة أنها لا تتوافق مع الشغف والرغبة التي تسيطر على عقله ومن التحديات أيضًا حب الذات والعيش مع النفس، دون أن يدرك الشاب أنه يجب أن يعيش الواقع، والحياة الاجتماعية القائمة على العمل الجماعي وخدمة الناس، وفي خدمة الناس وتوفير ما يحتاجونه من خدمات، يستطيع الإنسان أن يكسب المال، وهذا أمر يجهله كثير من الشباب الباحث عن عمل فالذي يعيش في شغفه وحياته النرجسية لن يستطيع تقديم أي خدمة يراها الناس ذات قيمة، وتستحق الدفع لها برواتب وحوافز مجزية. خذ مثلًا العاملين في القطاعات الصحية من أطباء واختصاصيين وفنيي الأشعة والعلاج الطبيعي، أو العاملين في قطاع الطاقة من مهندسين وغيرهم، وكثير من الأعمال التي تقدّم خدمةً للناس وتستحق الأجر المناسب مقابل ما يقدّمونه.

لذلك علينا أن نفكّر ونبدع ونعمل في أيّ فرصة عمل تُتاح لنا، أو نتأقلم مع الفرص المتاحة في السوق، فهي كثيرة، وعلينا اغتنام الفرص بدلًا من انتظار الأمنيات التي تتوافق مع شغفنا، إذ قد يطول الانتظار ويضيع العمر في الترقّب.

وعلى الإنسان أن يبادر إلى العمل الفعلي، فكما يُقال: كل ناجح تفوّق في حياته لأنه بدأ مبكرًا، وابتعد عن منطقة التفكير المفرط والتردّد، فهما طريق الفشل ومن أيّ عملٍ يُبادَر إليه، يكتسب الإنسان مهاراتٍ حياتية وقدراتٍ جديدة تؤهله مستقبلًا ليكون الأكفأ والأجدر، بخلاف من يظلّ باحثًا عن عمل لا يملك من الخبرة والمعرفة إلا الشهادة العلمية فلتكن رسالتنا: "أن نُزهر حيثما زُرِعنا، ونُثمر حيثما أُتيح لنا أن نكون".

** رئيس مركز بهلا الثقافي للعلوم والابتكار

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة