المدّاحون

 

 

بدر بن خميس الظّفري

@waladjameel

 

يحكي لنا التاريخ قصة قافلة من العرب في الجاهلية خرجت نحو العراق تحمل تجارة، وكان كسرى يومئذ سلطانها. فلما أشرفت القافلة على أرضه، قال أحدهم: "إنّا قادمون على ملك جبار، نخشى أن يهلكنا أو يمنع تجارتنا، والرأي أن يتقدم واحد منَّا، فإن نجا ربح، وإن هلك سلم الباقون." فانتُدِبَ شاعر جاهلي اسمه غيلان بن سلمة الثقفي، وقد كان ذا جرأة ودهاء.

تهيأ غيلان للقاء الملك، فلبس ثوبين أصفرين وتطيّب بأفخر الطيب. وكأنما أدرك بفطرته أنَّ اللون الأصفر يخطف الأبصار، وأنَّ الزينة الظاهرة أداة يستعملها المنافقون لإرضاء الأهواء واستمالة النفوس. دخل أرض كسرى وجلس ببابه حتى شاع خبره بين النَّاس، ثم أُذن له بالمثول بين يدي الملك.

سأله الترجمان: "ما الذي أدخلك بلاد الملك بغير إذن؟" فأجاب غيلان بلسان المراوغة: "لم آتِ عدوًّا، ولا جاسوسًا، وإنما جئت ببضاعة إن شئتَ أخذتها، وإن شئتَ بعتها لرعيتك، وإن لم تُرِدها رددتها". وبينما هو في حديثه، خرَّ ساجدًا على الأرض. تعجب الملك وسأله عن سبب سجوده، فقال في براعة المنافقين: "سمعت صوتًا يجلّ في القصر، وظننت أنَّه صوت الملك، فسجدت إجلالًا". فأعجب كسرى بكلمته، وأمر أن تُهيأ له مخدة يجلس عليها. فلما أمسك بها غيلان رفعها إلى رأسه، وقال: "رأيت عليها صورة الملك، فرأيت أن أضعها على أشرف أعضائي."

وهنا يكتمل المشهد بين دهاء المنافق ودهشة الطاغية؛ فخرج غيلان بتجارة مُضاعفة، وبعث معه الملك بنّائين شيدوا له قصرًا في الطائف، فكان أوَّل قصر يُقام فيها.

تكشف هذه القصة أن النفاق، أو امتهان المدح، مرض قديم، ضارب بجذوره في أقدم العصور، فهو ليس طارئًا في تاريخ البشر، ولا عارضًا من عوارض السياسة أو الاجتماع، فما أن عرف الإنسان طريقه إلى القوة والسلطان، حتى وجد المدّاح سبيله إلى التملق والتزلف، يبتغي من وراء ذلك منصبًا أو مالًا أو حظوة عند ذي شأن، وما من عصر إلا وقد تسلل المدّاحون إلى بلاط السلاطين، واتخذوا من المديح جواز عبور، ومن التملق سلّم صعود، ومن إذلال الكرامة طريقًا إلى الرفعة الزائفة.

إنّ المدّاح المُنافق لا يرعوي من سخرية النَّاس، ولا يعبأ بازدرائهم، فهو يعيش بغير حياء، ويمضي بغير وازع، يقتات من ضعف النفوس أمام الثناء. وكم رأينا رجلًا متصلبًا متجهمًا، فإذا أثنيت عليه لان وابتسم، وكم شهدنا متعجرفًا متكبرًا، فإذا جُعل في مصاف العظماء سُرّ ورضي.

ومن طبائع المنافق المدّاح أنه ملحاح، يكرر الطلب ويعود على الموائد مرة بعد أخرى، لا يردّه صدٌّ ولا يوقفه جفاء من يتودد إليه. وصاحب المنصب قد يسأم من كثرة ما يُلحّ عليه، فيمنحه ما يبتغي، لا عن اعتقاد بفضله، بل عن ضجر من لَجَاجه. وهكذا يرتقي الذليل إلى مكان رفيع، فتبتذل المناصب، وتهبط المراتب عن كرامتها.

والمأساة ليست في مالٍ يتقاضاه مدّاح، ولا في هبة ينالها من طاغية، وإنما في أن يصل إلى منصب ذي مسؤولية، فيه أرزاق الناس وأقدارهم. فحين يجلس عديم الكرامة على كرسي السلطة، يغدو الحاضر والمستقبل في يدِ مَن باع حياءه، وفرّط في إنسانيته. المنصب يومئذٍ يُهان، والكرامة تُمحى، والمسؤولية تُختزل إلى فرصة للتمتع والنهب.

والتاريخ لا يخلّد قصور الشاعر غيلان ولا أمواله، فمالُ الطغاة إلى زوال، وقصورهم إلى خراب. لكنه يدوّن العار الذي يلحق بالمجتمع حين يسمح لمنافق مطبّل أن يتسلق المناصب على حساب الشرفاء.

وليس عجيبًا أن يكثر المدّاحون، فالنفس البشرية ميّالة إلى المديح، والضعف أمام المديح والثناء داء عام. وما من إنسان إلا وفيه موضع يمكن أن ينفذ منه المنافق بكلمة لطيفة أو ثناء معسول. ومن هنا كان النفاق والتطبيل يتجدد مع كل جيل، لا ينقطع ولا يضمحل.

ومع ذلك، فلا بُد أن يُقال للمنافق: "أنت منافق." ولا بد أن يجد كلمة تردّه إلى وعيه، وتضع أمامه مرآة تكشف له قبح صنيعه. فرب كلمة واحدة ترد شابًا عن أن يستكمل طريق النفاق، وتحفظه من أن يصبح عبدًا ذليلًا بين يدي طاغية. وقد كان الإسلام حريصا على وأد هذه الصفة في مهدها، وإظهار حقارة صاحبها، فقد روى الإمام مسلم عن المقداد بن الأسود أن رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ قالَ: "إذَا رَأَيْتُمُ المَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا في وُجُوهِهِمِ التُّرَابَ".

إن طريق النفاق مفروش بالإغراء، سهل السير، سريع النتائج. أما طريق العزة فمحفوف بالمكاره، كثير العقبات، بطيء الثمرة. ولذا، كان القابض على كرامته في هذا الزمان كالقابض على الجمر، يصبر على الأذى ويحتمل المشقة ليخرج من المحنة مرفوع الرأس.

سيبقى النفاق ما بقيت الدنيا، غير أن الشرفاء سيبقون ما بقي في الأرض من يقاوم الخنوع، ويرفض أن يبيع كرامته في سوق المديح الزائف. فإذا عرف المنافق أنه مكشوف مفضوح، خفّ خطره، وإن لم يزُل شره.

وهنا يأتي دور سلاح الكلمة الصادقة، لتذكر البشر أن كرامة الإنسان فريضة. فإذا وقف القلم في وجه المنافقين، ورفع الصوت ضدّ المدّاحين، كان ذلك نصيبًا من الوفاء للحق، وذخرًا للضمير، وحصنًا للشرف الإنساني الذي لا يليق أن يُهدر.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة