الوعي المُتجدِّد بملف النجد الزراعي

 

 

 

د. عبدالله باحجاج

من حيث المبدأ، وكقاعدة عامة، فإنَّ تغليب الوعي المُتجدِّد على مسير الحكومات في شموليته حتمية الآن تقتضيها المتغيرات والتحولات الجيوسياسية المُتسارعة المنظورة وغير المنظورة، وكذلك تقتضيها بعدما أصبحت تطورات الثورة التكنولوجية تنتج أجيالًا مثل "جيل زد"، تجعل السيطرة على تفاعلات جيل الشباب من الصعوبة في ظل أنَّها قد أصبحت ناقلة للشعوب كل ما يجري في العالم، وتحرك الفعل من الفضاء إلى الميدان، ومن الدردشة الخاصة إلى العامة.

وما حدث في بنجلاديش والنيبال ويجري في المغرب الشقيق، أمثلة يمكن الاستدلال عليها، والمسوغات والدوافع التي تُحرِّكها تشترك فيها مع كثير إن لم يكن كل دول المنطقة، وكلها تتعلق بالحياة المعيشية والعدالة ومستقبل الأجيال الشابة. وهذا يعني أنَّ العواصم تتوافر فيها عوامل التوترات الداخلية، لذلك، لا بُد من اعتماد الوعي المتجدد كمنهج حياة يومية، فلم تعد خطة أو سياسة مالية واقتصادية ثابتة في مداها الزمني، أو كشيء جامد، مهما كانت برمجة تحقيقها الزمني- قصيرة ومتوسطة وطويلة- ومهما كانت محكمة الاستشراف في حينها؛ لأنَّ المتغيرات والتحولات تسابق سرعة الزمن نفسه، فما كان وقت إعداد الخطط والسياسات وتنفيذها ثابتًا، فقد تحول الآن إلى متغير، وتحول لأن الدول كلها قد أصبحت في حقبة متغيرة ومتسارعة.

وكل من يُصر على الثابت في ظل ديناميكية وسرعة المُتغيِّر، أو يستقبل المُتغيِّر بالرفض المُطلق والجمود وعدم قبول النقد البناء من الآخر، فسيكتشف لاحقًا أنه قد وقع في أخطاء استراتيجية، لكن بعد فوات الأوان. ومن هنا، لا ينبغي التمسك بالمفاهيم والرؤى والخبرات وحتى الخطط السابقة، لا نقول هنا الخطط القديمة فقط، والسابقة تعني المدى الزمني المنظور، وبالتالي ينبغي أن يشملها الوعي المتجدد؛ فهذا الوعي يمثل الآن صمام أمان لمسير الحكومات والدول، ويمتد هذا الأمان حتى إلى الفرد (الأفراد- الجماعات)، غايته مواجهة تحديات المتغيرات والتحولات السريعة في توقيتها المناسب، وأي حكومة لا تُغلِّب الآن مفهوم الوعي المُتجدِّد، وتمضي قدمًا في خياراتها المعدة من سنوات، ستجد في مسيرها تحديات كبرى، وستبرز إشكاليات داخلية بمسوغات ودوافع غير مسبوقة.

لذلك نقدم مفهوم الوعي المُتجدِّد كخيار سياسي حتمي للمرحلة الراهنة، وسنستشهد بملف النجد الزراعي بمحافظة ظفار كنموذج تطبيقي لهذا النوع من الوعي؛ سواء كان وراؤه تنظير بالمسمى أو كان تلقائيًا، وقبل ذلك، فمن الأهمية توضيح أكثر لمفهوم الوعي المُتجدِّد حرصًا على ضمانة وصوله للوعي السياسي، وهذا في حد ذاته من بين الأهداف المستهدفة لهذا المقال. والمفهوم هو مصطلح يستخدم للدلالة على القدرة على إعادة قراءة الذات والواقع باستمرار حتى لا تظل أي مسيرة أسيرة لمفاهيم وخبرات ورؤى وخطط ثابتة بُنيت برؤى واستشرافات لم تعد بعضها أو كلها ثابتة، أو لا تتماهى مع التحديات والإكراهات المُستجَدة، فكيف بالحديث الآن عن تحديات وجودية صريحة، لذلك ينبغي أن يَغلُب الوعي المتجدد، ويقود إلى إعادة النظر في الاستراتيجيات والخطط والمفاهيم وحتى الأشخاص لمواكبة المُعطيات الجديدة والتحديات المتغيرة، وإعادة رسم خارطة التحديات الوجودية الجديدة.

وعندما نتناول هنا ملف النجد الزراعي في ظفار كنموذج للوعي المتجدد، فإننا ندرجه كنموذج صغير في قضية كبرى، لكن دلالاته كبيرة ومُعبِّرة للقضية الكبرى التي قلنا سابقاً إنها موجهة لكل حكومات المنطقة؛ فالوعي المُتجدد للنجد قد غيَّر أسلوب إيجاد الحل لقضايا شائكة كالتمليك والانتفاع والدعم، وهذا الوعي قاد بعض الجهات الحكومية من الحل الأحادي المُلزِم، إلى الانتقال للتشاركية مع كل الأطراف لإيجاد الحل، فقد استضافت ولاية ثمريت مؤخرًا ورشة تفكير للبحث عن الحل بين عدد كبير من الجهات الحكومية والرسمية ومزارعي النجد، وجاءت هذه الورشة في ظل الحديث عن تحديات جيوسياسية بالغة الخطورة، بما فيها احتمالية حرب إقليمية، ولا تزال قائمة حتى الآن، يمكن أن ينجم عنها انقطاع سلاسل التوريد بما فيها الغذاء. وقد جمعت الورشة عدة جهات حكومية معنية بملف الزراعة في النجد؛ بما فيها وزارة الثروة الزراعية وموارد المياه بسُلطات مركزية ومحلية، والجمعية الزراعية بمسقط وظفار ومديرو وزارة الإسكان والتخطيط العمراني بولايتي ثمريت والمزيونة وعدد من مديري الخدمات في قطاعات الكهرباء والطرق، ورئيس مكتب تطوير النجد، ومزارعون من ظفار ومحافظات أخرى، ومستثمرون، وهذه سابقة إيجابية في الطريق الصحيح، فكل الشركاء قد التقوا في مكان واحد، وعلى طاولة واحدة لحل القضايا والإشكاليات من منظور المصلحة الوطنية.

المشاركون خرجوا بتوصيات مُهمة تنتظر الآن بفارغ الصبر اعتمادها، وبعضها تتجاوز الحيز الترابي للنجد، رغم أن النجد قد أصبح يزرع فيه مواطنون من كل أنحاء الوطن غير المستثمرين الكبار؛ لتشمل عموم المزارعين في البلاد، ولو لم يكن هناك وعي متجدد لملف النجد الزراعي في ضوء ما سبق التفصيل فيه، ما كان لكل الشركاء التوصل إلى هذه التوصيات المُهمة، ومنها:

1- التوصية بتمليك المزارعين المحصورين بالنجد 2009، بعدد 100 فدان، وما زاد عنه يدفع المزارع 5% كرسوم لكل فدان.

2- معاملة مزارعي النجد مُعاملة خاصة تختلف عن معاملة المزارعين الاستثماريين في الشركات الكبيرة، وهنا مراعاة للبعد الاجتماعي الخالص؛ فمَزارِع المواطنين لها عدة اعتبارات مُستحقة أهمها؛ كون هؤلاء المزارعين كان لهم السبق في اقتحام الصحراء منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفجروا الماء من باطنها بإمكانياتهم المتواضعة، وكونهم يعملون فيها مع أبنائهم، وكونهم يهدفون منها كمصدر للرزق وليس للتجارة... إلخ.

3- التوصية بأن يكون إيجار الفدان 5 ريالات لكل الأراضي الزراعية للمواطنين في أنحاء البلاد.

4- التوصية بتخفيض فاتورة الكهرباء على المزارعين.

5- إلغاء ضريبة القيمة المضافة والرسوم على المدخلات الزراعية.

ويمكن القول أخيرًا.. إنَّ هذه الورشة كانت واعية تمامًا بتحديات سلاسل توريد الغذاء الآن في ظل تجدد مخاطر الاضطرابات الجيوسياسية والأوبئة والأزمات الصحية، وارتفاع تكاليف النقل والطاقة، واعتماد سلاسل التوريد على النظم الرقمية يجعلها عرضة للهجمات الإلكترونية، واعتماد العالم على عدد محدود من الموردين، وهنا وعي متجدد مستحق من ورشة ثمريت، لم يكن سابقًا بهذا التماهي، وإنما في حدية وأحادية، وقد تناولناه في مقالات سابقة برؤى نقدية لصالح مستقبل أمننا الغذائي بصرف النظر عن الأزمات والتوترات، وذلك في سياق إمكانيات بلادنا الزراعية الواعدة التي ينبغي أن تتحول إلى طاقة إنتاجية تصنع الموارد الإضافية وتوفر فرص عمل، وهي تستوجب التعاطي معها بوعي متجدد، لذلك فإنَّ ورشة ثمريت المتعددة الأطراف والشركاء تلامس تفكيرنا بقضية تغليب الوعي المتجدد على الوعي السابق أو القديم، ومنها ندعو إلى تطبيقه كنهج حياتي بطابع سياسي مستدام، فلدينا وطن منعم باستقرار وأمن مستدامين، ولديه من المقومات الإنتاجية ما تستوجب تحويلها عاجلًا إلى مصادر دخل ثابتة للاقتصاد، فكيف نحصر الفكر والجهد على الضرائب والرسوم التي تُثقل كاهل المواطن؟

الأكثر قراءة