سلطان بن ناصر القاسمي
عندما نتحدث عن العلاقات الأسرية الناجحة، فلا بُد أن نبدأ الحديث عن الفهم العاطفي بين الزوجين، الذي يعد من أهم العوامل المؤثرة في نجاح العلاقات الزوجية واستمرارها. ويُقصد بالفهم العاطفي: القدرة على إدراك المشاعر الذاتية ومشاعر الآخرين، وفهمها بوعي، ثم توجيهها وإدارتها بشكل إيجابي يُسهم في تعزيز التواصل وتقوية الروابط الإنسانية. إنّه ذكاء خاص يجعل الإنسان أقدر على قراءة ما وراء الكلمات، واستيعاب ما لا يُقال بلسان، وإنما يُفهم من إشارات العاطفة وتعبيرات الملامح.
فهو يمثل القدرة على تحديد العواطف والسيطرة عليها وفهمها وإدارتها بفعالية بين الطرفين. ومن وجهة نظري، النساء أكثر قدرة على القيام بذلك في الجانب العاطفي لما يملكنه من رغبة في المحافظة على مملكتهن، إلا أن قدرة الرجال في التعامل مع المواقف تجعلهم أكثر ضبطًا للنفس وتحكمًا في التصرفات. ويأتي الفهم العاطفي داخل الأسرة ككل من خلال قدرة أفرادها على إدراك مشاعرهم ومشاعر الآخرين وفهمها وإدارتها واستخدامها لتوجيه الأفكار والأفعال بطريقة تعزز القدرة على التواصل وبناء علاقات قوية وصحية، مما يقلل من سوء الفهم داخل الأسرة ويجعل كل فرد قادرًا على ممارسة الفهم العاطفي.
وعندما نريد أن نميز بين الفهم العقلي، وهو إدراك المعلومات والحقائق بشكل منطقي، والفهم العاطفي، وهو القدرة على فهم مشاعر الآخرين والتعاطف معها بالإضافة إلى إدارة المشاعر الشخصية بفعالية في العلاقات الزوجية، يكمن الفرق في طبيعة كل منهما؛ فالفهم العقلي يعتمد على المنطق والمعرفة، بينما يعتمد الفهم العاطفي على الإدراك الحسي والوجداني، والتعاطف، والذكاء العاطفي ككل.
وللتفريق بين الفهم والتفهّم، فالأول يتعلق بإدراك الحقائق والمعاني، بينما الثاني يرتبط أكثر بتقبّل الآخر والتعاطف مع مشاعره وسياقه. أما الفهم فهو إدراك الحقائق والمعلومات، وهو العملية العقلية التي تمكّننا من استيعاب معاني الأمور والوقوف على حقيقتها. بينما يلعب التفهّم أو التفاهم المتبادل دورًا حيويًا في بناء علاقة متناغمة؛ فإدراك وجهات نظر بعضنا البعض وتقديرها يعزز التواصل، وعندما يتفهم الشريكان بعضهما البعض، يبنيان الثقة والتعاطف، في المقابل يولّد غياب التفاهم الاستياء والتباعد. ولهذا كثيرًا ما نلاحظ غياب ذلك التفاهم بين الزوجين مما يتسبب في وجود شوائب في العلاقة، وهو أحد المسببات الرئيسة لارتفاع حالات الطلاق في المجتمعات الحديثة.
ولتقريب الصورة بمثال بسيط: تخيل أسرة اجتمع أفرادها على مائدة العشاء، والجو متوتر بعد يوم طويل. الابن يحمل همًّا دراسيًا، والأم مرهقة من أعمال المنزل، والأب منشغل بضغوط العمل. في هذه اللحظة، يمكن أن يزداد التوتر بصمت وجفاء، أو يذوب كل ذلك بلمسة من الفهم العاطفي. فحين يلتفت الأب لابنه قائلاً: "أدرك أن دروسك أتعبتك، لكنك قادر على تجاوزها وأنا فخور بك"، وحين تقول الأم لزوجها: "أعلم أن يومك كان شاقًا، لكن وجودك بيننا يكفيني سعادة"، يتحول الجو المشحون إلى مساحة دفء ومودة. هذه الكلمات الصغيرة ليست مجرد مجاملات؛ بل مفاتيح تفتح أبواب الطمأنينة، وتؤكد أن الفهم العاطفي لا يحتاج إلى أحداث عظيمة؛ بل إلى لحظات إنسانية صادقة.
إضافة إلى ذلك، فإنَّ الضغوطات المادية ومغريات الحياة وكثرة المقارنات بين الأسر وعدم القناعة بما هو متاح، كلها عوامل تزيد من الفجوة العاطفية. لذا فالنصيحة الجوهرية أن يتقي الإنسان ربه في أسرته، وألا ينظر إلى من هم أكثر منه مالًا؛ بل يتذكر من هم أقل منه إمكانيات وأكثر منه حاجة. فالكلمة الطيبة والإصغاء الفعّال يعززان التقدير، ويقويان الروابط العاطفية، ويحسّنان الحالة النفسية، ويخلقان بيئة إيجابية من المشاعر. الكلمة الطيبة ترفع المعنويات، والمجاملات وجبر الخواطر تزيد من شعور السعادة، والإصغاء الفعّال يجعل الشريك يشعر بأنه مسموع ومفهوم، مما يعزز الاطمئنان والثقة.
ومن أجل نجاح الفهم العاطفي عمليًا، لابد من تطبيق مهارة الاستماع الفعّال أو ما يسمى "الاستماع النشط"، والذي يتطلب تركيزًا كاملاً على ما يقوله الطرف الآخر، لا مجرد سماعه. ويتضمن ذلك الإنصات اليقظ، وتجنب المشتتات، وإظهار الاهتمام عبر لغة الجسد، واستخدام تقنيات مثل إعادة الصياغة وطرح الأسئلة للتأكد من الفهم. هذه المهارة تعزز التواصل العميق وتقلل من سوء الفهم العاطفي.
ولتحقيق الفهم العاطفي بصورة أعمق، ينبغي الاهتمام بمعيارين أساسيين:
أ. التعبير عن المشاعر بوضوح، وذلك عبر فهم الذات أولاً بالتأمل الذاتي، ثم التعبير بوسائل مختلفة كالكتابة أو التحدث مع شخص موثوق. كما أن التواصل غير اللفظي مهم جدًا في هذا الجانب.
ب. احترام الاختلافات وتقدير الاحتياجات العاطفية، أي الاعتراف بمشاعر ووجهات نظر الآخرين واحتياجاتهم الخاصة، وهو ما يُعزز الفهم المتبادل ويعمق العلاقات الصحية، إذ يشمل ذلك الاستماع الفعّال والتعبير الصريح عن الذات بضمير "أنا"، وفهم الآخر من منظوره، وإظهار الدعم والتقدير لتوطيد الثقة وتعزيز الروابط الأسرية.
إنَّ الفهم العاطفي ليس مجرد مفهوم نفسي أو مهارة نظرية؛ بل هو روح تسري في تفاصيل الحياة الزوجية والأسرية. حين يتقنه الشريكان، تتحول بيوتهما إلى مرافئ أمان، وتصبح العلاقة الزوجية مصدر سكينة واطمئنان. فالعاطفة حين تُفهَم وتُحتَوى، تُزهر حبًا لا يذبل، ومودة لا تنقطع، وأسرة متماسكة قادرة على مواجهة ضغوط الحياة بقلب واحد وروح واحدة.