د. هبة العطار **
منذ اللحظة الأولى لم يكن سد النهضة مشروعًا بريئًا للتنمية كما رُوِّج له؛ بل كان جزءًا من خطة أوسع تداخلت فيها الحسابات السياسية والتواطؤات الخارجية؛ فإثيوبيا لم تتحرك وحدها؛ بل وجدت دعمًا من أطراف إقليمية، على رأسها كيان الاحتلال الإسرائيلي، الذي رأى في السد فرصة لشنّ "حرب عطش" على مصر، الدولة التي كان نهر النيل شريان حياتها منذ آلاف السنين. هكذا تحوّل النهر من مصدر للتعاون المشترك إلى ساحة صراع، وحُوصر حق مصر التاريخي في المياه داخل معادلات ضيقة وأطماع مكشوفة.
لم يكن ملف سد النهضة مجرد مشروع مائي على أرض إثيوبيا؛ بل أصبح قضية وجودية لدولتي مصر والسودان، وورقة سياسية حاولت أديس أبابا أن تفرضها كأمر واقع على شعوب حوض النيل. ومنذ البداية رفعت إثيوبيا شعارات التنمية والكهرباء، بينما كانت تبني جدارًا مائيًا يُهدد الأمن المائي لدول المصب، متحدية القوانين الدولية التي تحفظ الحقوق التاريخية في النهر.
وعلى مدار سنوات، استُخدمت لغة التهديد ضد مصر، وتحوّل الأمر إلى حملات دعائية حتى على منصات التواصل الاجتماعي؛ حيث ظهرت مقاطع ساخرة لبعض الإثيوبيات وهن يتباهين بأنَّهن لن يُعطين مصر "قطرة ماء". هذه المشاهد لم تكن مجرد مزاح؛ بل جسدت عقلية الاستعلاء التي حاولت بعض الأصوات هناك الترويج لها، وكأنَّ مياه النيل سلعة قابلة للبيع.
لكن الطبيعة لا تُهادن أحدًا. ومع ارتفاع منسوب المياه داخل إثيوبيا وتزايد المخاطر، جاء المشهد مُغايرًا تمامًا لما حاولوا تسويقه. فحين اضطرت إثيوبيا إلى فتح السد تجنبًا لانهياره، كانت النتيجة كارثية على السودان الذي غُمرت أراضٍ فيه بالمياه، بينما ظلت مصر، صاحبة الخبرة التاريخية في إدارة النهر، قادرة على استيعاب الموجة بفضل بنيتها المائية وسدها العالي الذي أثبت قيمته كدرع واقٍ.
اليوم، يظهر بوضوح أن الأزمة لم تعد مجرد تفاوض حول سنوات المَلء أو نسب التشغيل؛ بل أصبحت قضية وعي عالمي بأنَّ العبث بالأنهار الكبرى لا يمر بلا ثمن. ما كان يُستخدم كسلاح ضغط على مصر، ارتد على من أرادوا استخدامه، وكشف هشاشة الحسابات الإثيوبية أمام استقرار دولة عمرها آلاف السنين.
مصر لا تطلب سوى حقها الطبيعي والتاريخي الذي كفلته الجغرافيا والاتفاقيات، فهي لم تعتدِ على أحد، لكنها في الوقت ذاته لن تسمح أن يُعبث بأمنها المائي. وسد النهضة، الذي صُوِّر يومًا كرمز للسيادة الإثيوبية، صار شاهدًا على أنَّ من يتحدى قوانين الطبيعة والتاريخ، قد يغرق في فيضانه قبل أن يجرّع خصومه قطرة واحدة.
إنَّ ما حدث مع سد النهضة يختصر حكمة التاريخ: كل من ظنَّ أن بوسعه أن يتحكم في مصير الأنهار أو يغيّر مسار الطبيعة، وقع أسيرًا لغروره قبل أن يقع في شَرَك خصومه؛ فالماء، رمز الحياة منذ فجر البشرية، لا يُؤخذ بالعناد ولا يُحبس بالجدران؛ بل يفيض حيث يشاء. لقد أرادت إثيوبيا أن تُلوّح بالقوة، فإذا بها تكشف هشاشتها، وأرادت أن تحرم مصر من النيل، فإذا بالنيل يؤكد انتماءه لمن رعاه عبر العصور.
هكذا، يتجدد الدرس الأبدي: أن القوة الحقيقية ليست في السدود العالية ولا في الشعارات الجوفاء؛ بل في الحكمة التي تدير الموارد وتضمن البقاء. ومصر، التي عاشت على النيل آلاف السنين، ستظل شاهدة على أنَّ الاستقرار ميراث حضارة، بينما الانجراف وراء الغرور لا يقود إلا إلى الغرق.
** أستاذة الإعلام بجامعة سوهاج في مصر، وجامعتي الملك عبد العزيز وأم القرى بالسعودية سابقًا