د. محمد بن إبراهيم الزدجالي **
عَرِفَت سلطنة عُمان عبر تاريخها نظامًا قضائيًا مُستندًا إلى الفقه الإسلامي والاجتهاد القضائي، في ظل نظام الإمامة والحكم التقليدي، حيث كان القضاء يُمارَس باستقلال واحتكام إلى مبادئ الشريعة. ومع انطلاق النهضة المُباركة عام 1970، بدأت سلطنة عُمان في بناء مؤسسات قضائية حديثة شملت إنشاء المحاكم وصياغة القوانين المنظمة للتقاضي، بما يعكس توجه الدولة نحو تأسيس دولة المؤسسات والقانون.
وفي عام 1996، شكَّل صدور النظام الأساسي للدولة الأول نقلة نوعية نحو ترسيخ دولة القانون واستقلال القضاء، مؤكّدًا حماية الحقوق والحريات؛ حيث نصت المادة (76) على أنَّ شرف القضاء ونزاهة القضاة وعدلهم هو الضمان الأساسي للحقوق والحريات. ومع صدور قانون السلطة القضائية في عام 1999 تعزز استقلال القضاء ونظمت اختصاصاته وإجراءات عمله، وفي عام 2012 صدر المرسومان السلطانيان رقما 9 و10 / 2012، وقضى الأول بإنشاء المجلس الأعلى للقضاء، فيما قضى الثاني بشأن نقل مسؤوليات إدارة شؤون القضاء وتبعية المحاكم والإدارات القضائية من وزارة العدل إلى المجلس الأعلى للقضاء؛ لتُصبح السلطة القضائية مُستقلة تمامًا تضمن العدالة وسيادة القانون، وقد سبق هذه الخطوة استقلال الادعاء العام إداريًا وماليًا وتولِّي المُدّعي العام صلاحيات المُفتش العام للشرطة والجمارك؛ وذلك بموجب المرسوم السلطاني رقم 25/2011.
واليوم تمضي سلطنة عُمان في تعزيز هذا النهج، من خلال تطوير بُنية القضاء؛ حيث صدر المرسوم السلطاني رقم 35/2022 بشأن تنظيم إدارة شؤون القضاء، الذي أوجد هيكلًا مؤسسيًا تشريعيًا يهدف إلى ضمان استقلالية القضاء، وتطوير إجراءات التقاضي، والإشراف على شؤون القضاة والموظفين القضائيين، وأتى ليكمل مسيرة التطوير القضائي في سلطنة عُمان، مع التركيز على التفتيش القضائي، وتطوير الإجراءات والخدمات القضائية، ودمج الأنظمة القضائية وكذلك الادعاء العام لتحقيق تكامل أكثر بين المحاكم والدوائر وإدارات الادعاء العام. وعلى صعيد المحاكم المتخصصة، صدر المرسوم السلطاني رقم 35/2025 بإنشاء محكمة الاستثمار، لتعكس حرص الدولة على دعم قطاع الأعمال وتوفير بيئة قضائية مستقرة تشجع على استقطاب الاستثمارات.
ويُجسِّد "القضاء الواقِف"- كما يُطلق على مهنة المحاماة- دورًا أساسيًا في منظومة العدالة؛ حيث ينُص قانون المحاماة والاستشارات القانونية على أن المحامي يُمارس مهنته بحريةٍ واستقلالٍ، ملتزمًا بأعلى مستويات النزاهة والشرف، مُسهمًا في تحقيق العدالة وسيادة القانون وحماية حق الدفاع.
ومع بداية العام القضائي الذي يوافق الأول من أكتوبر من كل عام، وبناء على ما تحقق من منجزات، فإن سلطنة عُمان تمضي بخطوات متقدمة نحو تعزيز سيادة القانون، وتطوير منظومة القضاء، وتبسيط الإجراءات، والتحول الرقمي، لتضمن بيئة قانونية عادلة ومهنية متطورة، في ظل الداعم الأول صاحب الجلالة السلطان المعظم رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وبمناسبة بداية العام القضائي الجديد لا يفوتنا أن نتقدم بالتهاني لنائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء وأصحاب الفضيلة القضاة والأفاضل أعضاء الادعاء العام والأساتذة المحامين والعاملين في سلك القضاء، مثمنين عاليًا جهودهم وتفانيهم في تحقيق العدالة الناجزة، وكل عام والجميع بخير.
الرئيس السابق لجمعية المحامين العُمانية