د. أحمد بن موسى البلوشي
إن بناء جيل واعٍ ليس مهمة فردية ولا مسؤولية جهة واحدة فقط، بل هو مشروع وطني وإنساني متكامل، تشترك فيه الأسرة والمدرسة والمجتمع بكل مؤسساته، إضافة إلى دور الإعلام والتقنية الحديثة. فالوعي لا يُغرس في نفوس الأبناء تلقائياً، بل يُبنى لبنة لبنة عبر التربية السليمة الصحيحة، والقدوة الحسنة، وتكامل الجهود.
الأسرة هي الحضن الأول الذي يتشكل فيه وعي الطفل وقيمه. فالوالدان مسؤولان عن تنشئة أبنائهما على حب الخير، والقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، وتعزيز الحوار المفتوح داخل البيت. إن طريقة تعامل الوالدين مع المواقف اليومية، وكيفية حلّ المشكلات، تزرع لدى الأبناء أسلوباً صحياً في التفكير والتعاطي مع القضايا التي يواجهونها. فالطفل يتعلم من المُمارسة قبل النصيحة، ومن الموقف قبل الكلام.
المدرسة هي الامتداد الطبيعي لتربية البيت، وهي فضاء لبناء المعرفة، وتدريب الطلبة على النقد البنّاء، والتفكير الإبداعي، وروح التَّعاون، وحل المشكلات. فالمعلم الواعي لا يقتصر دوره على تقديم الدروس وتلقينها فقط، بل يتجاوز ذلك إلى غرس القيم والمبادئ، وتنمية مهارات الحياة، ومساعدة الطلبة على ربط ما يتعلمونه بواقعهم ومجتمعهم. كما إن اعتماد أساليب تعليمية تفاعلية يرسّخ القدرة على التحليل لا مجرد الحفظ.
المجتمع بكل مؤسساته المختلفة هو الميدان الواسع الذي ينتقل إليه الأبناء ليختبروا ما تعلموه في الأسرة والمدرسة، وليترجموا القيم النظرية إلى سلوك عملي، وتتنوع هذه المؤسسات لتشمل الأندية الثقافية والرياضية التي لا تقتصر على الترفيه أو ممارسة الهوايات فحسب، بل تمثل بيئة تربوية تزرع الانضباط والعمل الجماعي الحوار الهادف، حيث يتعلم الأبناء من خلالها أنَّ النجاح لا يتحقق إلا بالجد والاجتهاد، وأن الخسارة ليست نهاية، بل تجربة تدفع للتطوير. كما تأتي الجمعيات الأهلية والخيرية لتغرس روح التضامن والمسؤولية الاجتماعية وتشجع الشباب على التطوع وخدمة المجتمع، فالمشاركة في العمل الخيري تزرع في الأبناء قيمة العطاء دون مُقابل وتجعلهم أكثر وعياً بأهمية التكافل ومساعدة الآخرين. كذلك تسهم المساجد ودور العبادة بوصفها منارات روحية وأخلاقية في غرس القيم العليا مثل الصدق والعدل والتسامح واحترام الآخر، وعندما تؤدي دورها التوعوي بشكل متوازن فإنها تُسهم في تحصين الشباب من الغلو والتطرف وتوجيههم نحو الاعتدال والفكر الإيجابي. أما وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، فهي ذات أثر كبير في تشكيل الرأي العام وصياغة الاتجاهات، فإذا التزمت بالمسؤولية وقدمت محتوى هادفاً ساعدت على نشر الوعي وتعزيز الانتماء الوطني وتنمية التفكير النقدي، في حين أن انجرارها إلى السطحية أو الشائعات قد يجعلها أداة لهدم القيم وتشويه الوعي، ومن هنا يتضح أن المجتمع ليس إطاراً خارجياً مُحايداً، بل هو شريك أساسي في التربية والتنشئة، فإن كان واعياً ومسؤولاً عزز الانتماء والهوية وشجع المبادرات الشبابية واحتضن الطاقات، وإن غابت عنه القيم وضعفت القدوة تعرض الأبناء لمؤثرات سلبية تُربك مسيرتهم وتُضعف ارتباطهم بمحيطهم وهويتهم.
لا يكفي أن نقدّم للأبناء المعلومات، بل لا بد أن نعلّمهم كيف يفكرون. إن بناء جيل واعٍ يعني إكسابه أدوات التفكير النقدي، والقدرة على تقويم الأحداث والآراء بعيداً عن التقليد الأعمى أو التبعية العاطفية. كما أن طريقة تعاطي الأسرة والمدرسة والمجتمع مع القضايا اليومية تمثل أنموذجًا يُحتذى به؛ فحين نواجه المشكلات بروح الحوار، ونناقش الاختلاف باحترام، يتعلم الأبناء أن الوعي ليس علماً فقط، بل سلوكاً ومنهجاً للحياة.
لن ننجح في بناء جيل واعٍ إلا إذا تكاملت جهود الجميع: الأسرة تؤسس القيم، المدرسة تنمّي المعرفة، المجتمع يوفّر البيئة، والإعلام يعزّز الاتجاهات الإيجابية. وإذا عمل كل طرف بمعزل عن الآخر فسيبقى الجهد منقوصاً، بينما التكامل يجعل من كل طفل وشاب مشروعاً لمستقبل أفضل للوطن.
إن مشروع "معاً نبني جيلاً واعياً" ليس شعاراً عابراً، بل هو رؤية شاملة تستدعي أن نُغيّر نحن الكبار أولاً أسلوب تفكيرنا وتعاطينا مع الحياة، لنكون القدوة التي يستلهم منها الأبناء قيم الوعي والإيجابية. فجيل اليوم هو صانع الغد، وبقدر وعينا اليوم نصنع وعي الغد.