الاعتراف بدولة فلسطين.. خطوة رمزية أم مدخل ناعم للتطبيع؟

 

 

 

عباس المسكري

شهدت الساحة الدولية في الأسابيع الأخيرة تحركات متسارعة من بعض الدول الغربية نحو الاعتراف بدولة فلسطين، في مشهد يبدو للوهلة الأولى وكأنه انتصار دبلوماسي طال انتظاره، واستجابة متأخرة لضغوط شعبية متصاعدة ومشهد ميداني دامي فرضته المقاومة الفلسطينية وصمود الشعب في وجه آلة القتل الإسرائيلية، وهذه الاعترافات رغم رمزيتها، جاءت بعد سنوات طويلة من التردد والمماطلة، لتؤكد أن القضية الفلسطينية لم تُمحَ من الوعي العالمي، وأنها لا تزال قادرة على فرض نفسها على أجندة السياسة الدولية، مدفوعة بدماء الشهداء وصوت المظلومين وصرخة الشعوب في الساحات.

غير أن هذا الاعتراف، رغم رمزيته، لا يمكن فصله عن السياق السياسي الذي جاء فيه، ولا عن الأهداف غير المعلنة التي تقف خلفه؛ فالتوقيت الذي اختارته بعض الحكومات الغربية للإعلان عن هذه الخطوة يتقاطع بشكل مريب مع حالة الإرباك التي يعيشها الكيان الإسرائيلي، بعد فشله في تحقيق أهدافه العسكرية، وتزايد الانتقادات الدولية لسلوكه الوحشي في غزة، وفي هذا السياق، يبدو الاعتراف أقرب إلى محاولة لامتصاص الغضب الشعبي، وتخفيف الضغط عن الاحتلال، منه إلى خطوة جادة نحو إنصاف الفلسطينيين أو دعم حقوقهم الوطنية.

ولا يمكن في هذا السياق تجاهل الدور المحوري الذي لعبته المقاومة الفلسطينية، التي تجاوزت كونها فعلًا عسكريًا لتصبح قوة ضغط استراتيجية، أجبرت الحكومات الغربية على إعادة النظر في مواقفها، إلى جانبها، برزت التحركات الشعبية العالمية كعامل مؤثر؛ حيث امتلأت العواصم الغربية بالمظاهرات، وصدرت بيانات حقوقية تفضح جرائم الاحتلال وتطالب بإنهاء العدوان والاعتراف بفلسطين.

ورغم أن الاعتراف الدولي بفلسطين جاء في سياق ضغوط شعبية متصاعدة وصمود ميداني بطولي، إلا أن هذا لا يمنع من قراءة نقدية لطبيعة الاستجابة الرسمية، التي وإن بدت وكأنها انتصار للحق، تحمل في طياتها ملامح مناورة سياسية تهدف إلى إعادة صياغة القضية الفلسطينية بما يتناسب مع مصالح القوى الكبرى ، فالمقاومة، بما راكمته من تأثير، والحراك الشعبي العالمي، بما كشفه من زيف الخطاب الغربي، شكّلا عامل ضغط حقيقي دفع بعض الحكومات إلى اتخاذ خطوات رمزية، لكن هذه الخطوات لا تُعفي من السؤال: هل يُراد لهذا الاعتراف أن يكون بوابة لإنصاف الفلسطينيين، أم مدخلًا ناعمًا لترويضهم وتطبيع العلاقة مع الاحتلال؟ إن التقاء الفعل الشعبي مع المناورة الرسمية يخلق مشهدًا مركّبًا، لا يجوز اختزاله في ثنائية النصر أو الخديعة؛ بل يستدعي تفكيكًا دقيقًا لما يُقال، وما يُراد فعليًا من وراء ما يُقال.

ومع ذلك، فإن ما يُقدَّم اليوم على أنه إنجاز دبلوماسي، لا يعدو كونه محاولة لإعادة صياغة القضية الفلسطينية بما يتناسب مع مصالح القوى الكبرى، ويُضعف من مركزية المقاومة كفاعل رئيسي في المعادلة؛ فالدولة التي يُراد الاعتراف بها، وفق هذا التصور، ليست دولة ذات سيادة؛ بل كيان خاضع للوصاية الدولية، يُفرض عليه التكيف مع شروط المجتمع الدولي، ويُمنع من امتلاك أدوات الدفاع عن النفس، في مقابل وعود فارغة بالتمويل والدعم السياسي.

إنَّ الاعتراف، حين يُفصل عن الواقع الميداني، ويتجاهل جوهر القضية، يتحول إلى أداة لتجميل وجه الاحتلال، لا إلى خطوة نحو إنهائه، وما لم يُصاحب هذا الاعتراف خطوات عملية تُحصّن الأرض، وتكبح الاستيطان، وتوقف المجازر، سيظل مجرد حبر على ورق، يُستخدم لتلميع صورة المعتدي، لا لنصرة الضحية، وحدها المقاومة، بكل تجلياتها، تبقى الضمانة الحقيقية لصمود الشعب الفلسطيني، وحائط الصد أمام مشاريع الطمس والإبادة، واليد التي تكتب التاريخ لا التي تُوقّع على تصفيته.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة