النظرة للوطن تختلف من مسؤول لآخر

 

 

 

د. عبدالله باحجاج

في دولة - كبلادنا- ولا يُضاهيها أي دولة أخرى سوى الدول العريقة مثلها، يظلُ الرهان على منظومات الأمن الشامل، خيارَهَا الاستراتيجي الثابت، مهما كانت الحقب الجيوسياسية التي تمُر بها، وخاصةً مثل الحقبة الراهنة التي بدأت إكراهاتها الخليجية بجلاءٍ بعد 9 سبتمبر الماضي، عندما شهدت فيه الشقيقة قطر عدوانًا صهيونيًا غادرًا، أكد انقلاب المفاهيم الأمنية والعسكرية المتعارَف عليها؛ وأبرزها: عدم الاعتماد على واشنطن والغرب عمومًا لحماية أمن واستقرار دول المنطقة، وكذلك لا يُمكن أن يتقيد الكيان الصهيوني بأيِّ اتفاقية أو تطبيع، فلا ثقة فيه إطلاقًا؛ فطموحاته الاستعمارية في المنطقة قد انكشفت بصورة مُخيفة وبتواطؤٍ أمريكيٍّ/ ترامبيٍّ، وهذا الانكشاف قد دفع ببعض دول المنطقة الخليجية إلى الإسراع لإبرام اتفاقيات دفاعية مع قوى نووية إقليمية، ولا نستبعد إقامة "ناتو إسلامي" بقيادة باكستانية سعودية.

منظومات الأمن الشامل لا تنحصر في الأمن العسكري فحسب، وإنما الأمن السيبراني والأمن الاجتماعي، وكلما كانت هذه المنظومات متكاملة، زادت من مناعة الجبهة الداخلية لكل دولة، والعكس صحيح، وفي بعض الدول- كبلادنا- يُشكِّل الأمن الاجتماعي قاطرةً لكل المنظومات حتى لو كانت غير كاملة أو مُتكاملة، ومعها تظل الرهانات على الأمن الاجتماعي كأولوية حتمية للمواجهة وإحباط المؤامرات والأجندات وحتى استبعاد خيار القوة الخشنة من قبل الآخرين. هذا ليس تنظيرًا مُجرَّدًا، وإنما قد رأينا تطبيقاته في تاريخ بلادنا الحديث إبان حقبة السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وكذلك في العديد من التجارب التاريخية الإقليمية والدولية؛ لذلك نستدعيه الآن بإلحاحٍ لأنه من الثوابت المُقدَّسة في بلادنا، مهما كانت حقبها الزمنية والسياسية والاقتصادية. نستدعيه الآن بهدف توحيد الرؤى عند كل النخب الحكومية والعامة والخاصة، فمِثل بلادنا تظل قوتها الحقيقية في تماسك وقوة جبهتها الداخلية.

وزيارة عاهل البلاد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- لمقر قيادة الفرق الوطنية في الجيش السلطاني العُماني بصلالة، وافتتاح مقرها الجديد، والإشراف السلطاني المباشر على مدى جاهزيتها، كانت بمثابة رسالة مُتعدِّدة الأهداف، وقد جاءت في توقيتها الزمني والأمني والسياسي على كل المستويات الداخلية والخارجية، وهي تتجاوز المحافظة على الذاكرة النضالية للفرق الوطنية؛ لتعكس مجموعة أبعاد سياسية وعسكرية واجتماعية في آنٍ واحدٍ، من بينها: منح جيشنا العُماني الباسل قدرة مزدوجة نظامية وشعبية، رسالتها واضحة، وهي أن كل أركان الدولة خلف قائد البلاد- حفظه الله- وأن الكُل على استعداد للتضحية من أجل الوطن مهما كانت التحديات، وعكست بالتالي الروح الوطنية التي ينبغي أن تخرج الآن على وجه الخصوص، في ضوء ما سبق ذكره، وفي إطار بُعدها الجغرافي الوطني الاستراتيجي.

وإذا ما تأمَّلنا في أهمية قوة وتماسك الجبهة الداخلية للدول العريقة من منظور الأحداث الكبرى التي جرت في المنطقة، ونجاح الاختراقات الصهيونية والأجنبية عامة فيها؛ فينبغي التوقف عند تعريف مفهوم "القوة"، والتي تعنى باختصار الصمود والمواجهة، وكذلك عند مفهوم "التماسك"، والذي يعني هو الآخر الوحدة والتكاتف. والنتيجة المُترتِّبة على المفهومين أن يظل المجتمع داخليًا في حالة وحدة وتضامن وانسجام؛ حيث تتقلص الخلافات والانقسامات الداخلية، وتتكاتف المؤسسات الحكومية والرسمية والأهلية مع المواطنين لتحقيق المصلحة العامة. ومن هنا، فإنَّ تقييم وتقويم المسير بعد أحداث مجموعة تحولات كبرى، قد أصبحت مسألة حتمية؛ لأن قضية الاختراقات الأجنبية؛ سواء الإقليمية والدولية لدول المنطقة، تطرح نفسها الآن بقوة، كهاجسٍ مُخيفٍ، وعلى كل الفاعلين داخل البلاد- بمن فيهم الحكوميين- أن ينصب تفكيرهم ومنتوجاته- كالسياسات والاستراتيجيات وتنفيذها- على بلورة المفهومَيْن، مهما كانت الضغوط المرحلية التي تمُر بها الدولة.

وقد دفع بنا إلى كتابة هذا المقال، بروز التحديات الجيوسياسية الجديدة في المنطقة بعد 9 سبتمبر الماضي، وخيارات بعض دول الخليج للجوء إلى تحالفات دفاعية وتعزيز شراكات عسكرية مع قوى نووية إقليمية، وهذا من حقها، لكن ينبغي أن يواكب ذلك تحصين مناعة جبهتها الداخلية أولًا. ونستشهد هُنا بما قاله المكرم سالم بن مسلم قطن نائب رئيس مجلس الدولة في تصريحات إذاعية إن "النظرة للوطن تختلف من مسؤول لآخر"، وهذا تشخيصٌ دقيقٌ من موقع المسؤولية الوطنية، ويُفسِّر لنا بعض الأسباب التي تُثير الاستياء والإحباط المجتمعي، ونحن في حقبةٍ لا ينبغي أن يكون هذا الاختلاف أبدًا قائمًا، وإنما الإجماع المُطلَق على وحدة النظرة للوطن ومواطنيه.

ومفهوم "النظرة للوطن"، تعني الكيفية التي يرى بها المسؤولُ الوطنَ، بأركانه الأساسية؛ بمن فيهم مواطنيه؛ باعتبارهم قوى الدولة الأساسية. وهنا نتساءل: لماذا هذا الاختلاف بين المسؤولين تجاه النظرة للوطن؟ نترُك الإجابة لمقالٍ مُقبلٍ تحت عنوان "فهم التحول.."، وقد استمعت الى ما قاله المكرم نائب رئيس مجلس الدولة، ثلاث مرات متتالية عن علاقة الدولة بالمجتمع، وعن مركزية المواطن في قوة الدولة، ودور القوة المجتمعية في تقوية بقية عناصر الدولة، وهي تُدلِّل على أنَّ الدولة لا تكون قوية إلّا بقدر ما يكون مجتمعها داخليًا مُتماسكًا وفاعلًا، وهي النتيجة ذاتها التي نخرج بها من الكثير من مقالتنا المنشورة في جريدة الرؤية، ونحملُ همَّها بصوتٍ مُرتفع لضمانة وصولها لصُنَّاع القرار. وقد بدتْ لنا رسالة المكرم قطن واضحةً، وكأنها تتطلع توقيتًا إلى مخاطبة وعي بعض المسؤولين، والتأثير على تصويب مفهوم قوة الدولة وفق خصوصية مُكوِّننا الديموغرافي.

وعندما نتناول أطروحات المكرم قطن، فليس من خلال تموقعه الوظيفي الحالي كنائب رئيس مجلس الدولة فحسب، وإنما كذلك هو لواء متقاعد له أكثر من 40 سنة من العمل في مواقع أمنية وفكرية واستراتيجية عميقة. وتكفي الإشارة هنا إلى توليه أمانة مجلس الشؤون العسكرية، والتي كان يرأسها- آنذاك- مؤسس النهضة العُمانية الحديثة السلطان قابوس، وكذلك رئاسته لكلية الدفاع الوطني التي يتخرَّج منها بعض قادة وكبار المسؤولين في البلاد، وتتخصص في رفد الفكر السياسي باستراتيجيات وطنية بصورة علمية مجردة، وكذلك رئاسته لأكثر من 30 لجنة في الداخل والخارج، عندما كان مساعدًا للمفتش العام للشرطة والجمارك. وبالتالي، فإن ما يطرحه المكرم قطن هو نتاج وعي بالواقع ومآلاته، من خلال رؤيته لقوى الدولة الثابتة والمتغيرة في دولة عريقة كسلطنة عُمان. ومن هنا، فمن الأهمية أن نتوقف عند أفكاره بغية المساهمة في إنضاج التفكير الوطني بطبيعة المرحلة الوطنية، بعد مرور خمس سنوات على مسيرنا الوطني المُتجدِّد، ودخولها- أي المرحلة- في استحقاقِ التقييم والتقويم، بعد كل خمس سنوات، في ضوء انكشاف التحديات الجيوسياسية في المنطقة، وما وراؤها من قوى عالمية وإقليمية.

وأطروحات المكرم قطن، تُلامِس وَعْيَنَا بمفهوم الدولة الوطنية كصانعة الأفعال والأحداث، وهي تتماهى مع مقالاتنا السابقة، ومنها المعنون بـ"ما بعد الدولة الوطنية في الخليج"؛ إذ إن الدولة الوطنية حتمية خاصة للدول العريقة التي يشعر فيها مُكوِّنها الديموغرافي أنه أقدم من الكيانات السياسية الحديثة، وأن الدولة الحديثة- كمفهوم- قد اتكأت على الكيانات الاجتماعية، واستقوت بها، وأكسبت الدولة شرعيتها، وشرَّعت السلطة السياسية، كما قلنا في المقال السابق.

والمكرم قطن من مخرجات فكر مؤسِّس النهضة العُمانية الحديثة السلطان قابوس، ومن الواعين بثِقَل المجتمع داخل الدولة، ووقوف المجتمع العُماني مع قائده داعمًا ومساندًا في تأسيس الدولة العُمانية الحديثة. لذلك لم نستغرب من طبيعة أطروحاته وعُمقها وصراحتها، ونفاذ وعيه إلى فهم سِر البُعد الاجتماعي في الدولة، وأطروحاته تتماهى كذلك مع أفكارنا بحتمية ربط الاقتصاد بالسياسة، لكي تكون نتائجها استدامة القوة الناعمة العُمانية؛ لأن هذه الفلسفة هي التي أسَّست النهضة العُمانية بمنظومة ولاء وانتماء مُطلقين، وبالتالي، هي الصالحة في بلادنا في كل حقبها الزمنية المتعاقبة، وهي ليست جامدة وإنما متطورة، وتطورها يكون محكومًا بوجود رؤية واعية لتطوير المجتمع وتناغمه مع التحولات الجديدة، وغياب هذه الرؤية سيُؤثر على التوازنات الاجتماعية حتمًا.

اللافت في تصريحات المكرم قطن، الجزم بمُسلَّمات، ومن ثم تقديم النصائح للأداء التنفيذي كقوله: "أجزم أن أهم ما في الوطن هو المواطن، وإذا تمَّ الاهتمام بالمواطن، والاهتمام بالأمن الاجتماعي، فكل مفاصل الدولة الأخرى تشعر بقوتها"، وقوله كذلك: "قوة الدولة ومهابتها مرتبطة بالمُجتمع في الداخل، فكلما كانت الجبهة الداخلية قوية مُتماسكة وعندها ولاء مطلق للوطن، لا تهاب أي عدو بعيد أو قريب..". وأهم النصائح التي وجهها المكرم قطن دعوته بعض المسؤولين إلى الاهتمام بالوطن والمواطن.

ومسيرنا الوطني الآن في استحقاق سياسي لتقييم/ تقويم، أداء الوزراء والوكلاء، ونقترح أن يكون شاملًا، بعد مرور الخمس سنوات على التشكيل الوزاري الحالي، وبعد انكشاف طبيعة التحديات الوجودية التي تواجه دول المنطقة؛ لذلك ما أحوجنا لهذا التقييم/ التقويم الآن وعاجلًا.

الأكثر قراءة