د. صالح بن ناصر القاسمي
الإنسان مهما بلغ من نُضج وتجربة، يظلُ في حاجة إلى من يُعينه على تبيُّن الطريق، وإلى من يضع له المرآة الصافية التي يرى من خلالها الأمور على حقيقتها دون رتوش أو خداع للنفس. ومن هنا تأتي قيمة وجود صديق صادق أو قريب وفيّ، يحمل الأمانة بكل أشكالها، وأعظمها الأمانة الأخلاقية والعلمية، فيكون ناصحًا أمينًا، مُحبًا للخير، مُخلصًا في الرأي، لا يقول إلا ما يراه حقًا وصوابًا.
هؤلاء بمثابة المستشار الذي يعلو في مقامه على حدود الصفة الرسمية، ليغدو عقلا مشاركا في اتخاذ القرار، وأخًا يخاف عليك كما يخاف على نفسه، فيصدقك القول ولو كان ثقيلاً، ويشير عليك بما ينفعك وإن كان صعبًا على سمعك.
وقد مررتُ بتجربة شخصية تُؤكد هذه الحقيقة؛ إذ حاولتُ يومًا التعبير عن بعض المشاعر والأفكار التي أثارتها أحداث مُعينة، فكتبتُ خواطر أردتُ نشرها، ثم عرضتها على أحد الأصدقاء المُقربين ممن أثق بأمانته ورجاحة عقله. فجاء رأيه صريحًا واضحًا أنَّ ما كتبته لا يصلح للنشر، وأن عليَّ إعادة النظر فيه من جديد. وبرغم أن رأيه جاء مُخالفًا لما توقعته، إلّا أنني شعرتُ بسعادة غامرة وامتنان كبير؛ بل ازداد قَدْرُه في نفسي؛ لأنه لم يَجر وراء المجاملة ولم يخشَ أن يجرح مشاعري؛ بل فضّل أن يكون صادقًا وناصحًا وأمينًا. وهذه النماذج من الأصدقاء هُم الذين نحتاج إليهم في حياتنا؛ أناس يرفعون من قدر الصدق فوق المُجاملة، ويجعلون مصلحتك أهم من رضاك اللحظي.
وإذا عُدنا بالذاكرة إلى الماضي القريب، نجد أنَّ المجتمعات كانت تزخر بشخصيات تحمل هيبة خاصة، وتتمتع بكاريزما تجعلها محل ثقة النَّاس ومرجعًا للمشورة. كانوا يتصفون بالصدق والأمانة وسعة الصدر وهدوء الطبع، وكان الجلوس معهم متعة في ذاته، حتى وإن لم تستشرهم في أمر مُحدد. فلقد حباهم الله بخصال تجعلهم موئلًا للقلوب، فإذا تحدثوا أنصت النَّاس، وإذا نصحوا أُخذ برأيهم، وكان أثرهم يتجاوز الفرد إلى الجماعة، لأنهم يمثلون الحكمة المجرّبة والرأي الصائب.
ومن روائع جوامع الكَلِم التي نطق بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قوله: "المستشار مُؤتمن". وهي جملة قصيرة، لكنها تحمل معاني عظيمة. فالمستشار هو من يُلجأ إليه طلباً للرأي، ولا يلجأ الناس إلّا لمن عُرف بالحكمة والأمانة والصدق. وفي المُقابل، على المستشار أن يكون صادقاً في نصيحته، أميناً في مشورته، كاتماً لسرّ من استشاره، شجاعاً في قوله، لا يبالي إن أثقلت كلماته على السامع ما دام فيها نفع وخير. فالمستشار ليس مهمته إرضاء طالب المشورة، بل هدايته إلى ما يراه صواباً، ولو خالف رغبته.
وقد ضربت السُنَّة النبوية أمثلة عديدة لهذا المعنى؛ ومن أبرزها ما رُوي عن فاطمة بنت قيس- رضي الله عنها- حين استشارت النبي- صلى الله عليه وسلم- في أمر زواجها بعدما خطبها معاوية بن أبي سفيان وأبو جهم، فقالت: يا رسول الله ما ترى؟ فقال لها: "أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة." فكان في هذه المشورة صدق ونصح خالص، خالٍ من التزيين أو التردد، لأنَّ الأمر يتعلق ببناء أسرة، ولا مجال فيه للمُجاملة أو المداراة. وهكذا يجب أن تكون نصيحة المستشار؛ صريحة واضحة، بعيدة عن التزييف، موجهة إلى مصلحة المستشير قبل أي اعتبار آخر.
ومن المهم أن نُدرك أنَّ الاستشارة لا تنحصر في أمور محدودة أو في دائرة ضيقة، بل هي مطلوبة في جميع شؤون الحياة. في الأسرة، مثلا، يحتاج رب الأسرة أن يستمع إلى أبنائه وزوجه، فالمشاركة في الرأي تُكسب القرار وضوحًا ورسوخًا، وتمنح كل فرد شعورا بالمسؤولية والانتماء.
وفي ميدان العمل، لا غنى عن الاستشارة بين الزملاء والفرق، فكل رأي يُضيف زاوية جديدة ويكشف جانبًا لم يكن ظاهرًا؛ فهي ليست ضعفًا في صاحب القرار؛ بل هي قوة تُظهر تواضعه ورغبته في الإحاطة بجوانب الموضوع كافة.
ومن أسمى صور المشورة تلك التي تتعلق بالشأن العام، حين يكون المستشار قريبًا من صاحب القرار في الدولة أو المؤسسة. هنا تتعاظم المسؤولية، ويجب أن يتحلى المستشار بالجرأة والإخلاص، فلا يخشى في قول الحق لومة لائم، ولا يرضخ لضغوط تُحرف مسار النصيحة. وفي المقابل، على متخذ القرار أن يصغي بعقل متجرد، بعيدًا عن الأحكام المسبقة؛ لأنَّ الغاية الكبرى ليست إرضاء الأشخاص، بل خدمة المصلحة العامة وصون الأمانة.
ولا شك أنَّ قيمة الاستشارة تتضاعف حين ترتبط بالتقوى؛ فالمسلم حين يستشير ينطلق من وعيه بأن النصيحة أمانة، وأنها جزء من الدين، كما جاء في الحديث الشريف: "الدينُ النصيحة"، أي أن جوهر الدين يقوم على إخلاص القول والعمل للغير كما تحب لنفسك. ومن ثم فإن تقديم المشورة هو عبادة إذا أُديت بصدق، لأنه يسهم في دفع الضرر وجلب الخير للآخرين.
ولعل أجمل ما يمكن أن نختم به هو التذكير بأنَّ الاستشارة ليست مجرد إجراء شكلي أو كلمات تُقال، بل هي روح من الإخلاص تتجلى في صورة كلمة صادقة. وهي جسر يربط بين القلوب والعقول، ووسيلة لحماية القرارات من الانزلاق إلى الهوى أو التسرع. ولذلك كان القول الحكيم: "ما خاب من استشار، ولا ندم من استخار". وبين الاستشارة والاستخارة يكمن جوهر التوازن بين جهد الإنسان وتوفيق الرحمن؛ فالإنسان يسعى برأيه ومشورة إخوانه، ثم يسلّم أمره لله، فيطمئن قلبه ويستقيم قراره.