قيس بن سالم بن عامر الراشدي **
في إطار المسيرة التطويرية المتواصلة للمنظومة العدلية في سلطنة عمان، صدر قانون المحاماة والاستشارات القانونية الجديد بموجب المرسوم السلطاني رقم 41/2024 ليعكس رؤى طموحةً تستشرف مستقبل المهنة، ويأتي في صلب هذا التطوير النوعي إقرار نظام الاختبارات الإلزامية للقيد في الجدول الأعلى للمحامين، ولا يعد هذا الإجراء مجرد متطلب إجرائي عادي، بل هو تحول مهم في سبيل تنظيم المهنة؛ بهدف تحسين آلية الدخول إلى هذا المجال وامتلاك المنتسبين إليه لأعلى معايير الكفاءة والمعرفة.
ويختلف القانون الجديد جذريًا عن سابقه قانون المحاماة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 108 لسنة 1996م، في مقاربته شروط القيد في الجداول العُليا، ففي القانون القديم كان التركيز مقتصرًا على الخبرة الزمنية كمعيار أساسي للقيد في الجدول الأعلى درجة، دون التفات لأي كفاء مهنية، فمثلًا يشترط للقيد في جدول المحامين المقبولين أمام محاكم الاستئناف ممارسة المهنة لمدة 5 أعوام على الأقل أمام المحاكم الابتدائية، بينما يتطلب القيد أمام المحكمة العليا 7 أعوام إضافية أمام محاكم الاستئناف، وبالرغم من بساطة هذا النهج، إلّا أنه يفتقر إلى آليات حقيقية لتقييم الكفاءة الفنية والمعرفية للمحامي؛ مما أدى إلى تفاوت الكفاءة المهنية بين المحامين بشكل كبير، بينما هم يتمتعون بذات القيد.
أما القانون الجديد، فيعتمد نهجًا أكثر شمولية ودقة؛ حيث يقلص المدد الزمنية إلى 3 أعوام للقيد أمام محاكم الاستئناف و5 أعوام للقيد أمام المحكمة العليا، في مقابل إضافة شرط اجتياز اختبار متخصص وبرنامج تعليم مستمر حددت شروطهما اللائحة التنفيذية للقانون المشار إليه، وتشمل تلك الاختبارات تقييمًا عمليًا للمهارات القانونية والمكنة العلمية، مثل التحليل الفني للقضايا وإجراءات المرافعة، بالإضافة إلى الالتزام بالتعليم المستمر لتحديث الرصيد المعرفي القانوني في ضوء المستجدات التشريعية المستمرة.
وتكمن أهمية هذه الاختبارات في دورها لتأمين الكفاءة المهنية، إذ تمثل حاجزًا وقائيًا ضد التراخي أو التقصير في الاهتمام بالمهنة من قبل بعض المحامين، ليصبح من يمنح صفة المحامي المقيد في الجدول الأعلى هو من يحمل المؤهلات الحقيقية لا من اجتاز المدة الزمنية فقط، ويصبح من الضروري أن يكون المحامون مجهزين بمعارف ومهارات للدفاع عن حقوق موكليهم التي اضطلعوا بحمايتها.
ومن الطبيعي أن تتباين وجهات النظر حول اختبارات الكفاءة، خاصة عند تطبيقها لأول مرة، كما هو الحال مع أي تجربة جديدة، فهناك من يراها عبئًا ينبغي تجنبه أو تبسيطه ليكون في متناول الجميع، بينما يرى آخرون أنها فرصة للارتقاء بالمهنة؛ حيث تحول دون وصول غير المؤهلين إلى المستويات العليا من المهنة، ويقارنها بما يعرف في بعض الدول بـ"Bar Exam"، والذي يُعد حجر زاوية في تنظيم مهنة المحاماة في العديد من الأنظمة القانونية، لا سيما في الدول التي تعتمد معايير صارمة لإثبات الكفاءة المهنية للمحامي؛ إذ يحظى الاختبار باهتمام كبير من المختبرين لأنه يمثل بوابة الدخول إلى المهنة أو الترقية فيها؛ حيث يرتبط اجتيازه مباشرة بالسمعة المهنية والفرص الوظيفية، كما أن التحدي الفكري والعملي الذي يفرضه الاختبار يدفع المختبرين لتطوير مهاراتهم باستمرار.
وعلى الرغم من أن الامتحان قد لا يعكس المهارات الحقيقية للمحامي كون المهارات المطلوبة للمهنة أكبر من أن يشملها اختبار، إلّا أنه أفضل ما يمكن فعله، لأننا بحاجة إلى طريقة موثوقة من الناحية العلمية لتقييم المشتغلين بالمهنة، طالما كانت الأسئلة البارزة لأسئلة الاختبار تُركز بشكل مباشر على مهارة تحليلية مهمة يُتوقع من المحامين امتلاكها كالقدرة على قراءة وفهم القضايا وطريقة استخدامها لتدعيم موقف موكليهم، ولا شك بأن التجربة قابلة للتطوير في المستقبل بشكل أفضل.
ولكي تثمر هذه التجربة الرائدة، فإنني أقترحُ تعزيزها ببعض الإجراءات الإضافية، أولًا: التحول إلى "امتحانات مفتوحة الكتب"، والسماح باستخدام المراجع في أثناء الامتحان لتشجيع التحليل بدلًا من الذاكرة، والتركيز على المهارات بدلًا من الحفظ، وثانيًا: إضافة قسم للخدمات القانونية، والتي تعنى بالخدمات غير القضائية كصياغة العقود أو أسئلة تتعلق بأعمال الشركات، لتأهيل المحامين لمثل هذه الأعمال، وثالثا: تجاوز مسألة وضع الاختبارات التقليدية إلى الولوج إلى الجانب العملي كقراءة ملف قضية ما، ومنح المتقدمين الوقت الكافي لكتابة مذكرة أو صحيفة بحسب ما يرد في السؤال، ورابعا: تبني جانب التخصص في اختبارات القيد في جدول المحامين المقبولين أمام محاكم الاستئناف والعليا بحيث يختبر المتقدم في مجال التخصص الذي يختاره بنسبة أعلى من بقية المجالات.
في الختام.. إنَّ إقرار الاختبارات المهنية للقيد في الجدول الأعلى للمحامين في القانون الجديد، قرارٌ حكيمٌ، واستثمار طويل الأمد في رأس المال البشري القانوني، يرتقي بمهنة المحاماة وأن تكون شريكة القضاء في إقامة العدل، وقوية بأهلها، رصينة بممارسيها، متينة بأخلاقها، متجددة بعلومها، ملتزمة بمسؤولياتها الاجتماعية؛ فهي ليست مجرد مهنة عادية، وإنما هي رسالة عدل، وضمير حي ينبض بالمسؤولية، وسد منيع يحمي الحريات ويحفظ الحقوق، فمن حقها أن يُعلى شأنها، ويصان مقامها بكفاءة شاغليها.
** محامٍ