د. عبدالله باحجاج
طوال العقود الماضية جعلوا من إيران "بُعبُعًا" يُهدد استقرار المنطقة، صوَّرُوها كشيء مرعب للتخويف، وأنها فوق إمكانيات الأنظمة الخليجية الأمنية والعسكرية، وأن لا خيار أمامها سوى الحماية الأمريكية والبريطانية خاصة والغربية عامة، ونحن هنا لا ننفي التحدي الإيراني، لكنه كان ذريعة لتبرير إجراءات أمنية (مثل: إقامة قواعد عسكرية وتواجدهم العسكري) وسياسية (مثل: جعل الأنظمة تابعة لواشنطن ولندن غالبًا)، وتحقيق مصالح اقتصادية مباشرة وغير مباشرة، مرئية وسرية، مؤقتة ودائمة.
آخر هذه المصالح: المليارات التي ابتزها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعد زيارته الأخيرة للخليج، ولن ننسى الطائرة الخاصة التي أُهديت له من الدوحة، والتي لم تشفع لقطر! وهذا يعني أن الخليج يتعامل مع رئيس أمريكي يعرف كيف يبتلع الثروات، وكيف يستغل قوة بلاده في الابتلاع الرخيص والمجاني، وهو يدفع الآن ببعض دول الخليج إلى أن تشمل أي اتفاقية أمنية معها أو تطويرها، الحماية الخليجية من الكيان الإسرائيلي.
فمن هي أمريكا؟ ومن هو الكيان؟ أمريكا ترامب تستغبينا، وستُمرِّر الاستغباء على جعل هذا الكيان العدو أو البُعبُع الجديد للخليج في أي اتفاقية أمنية؛ سواءً بصورة مباشرة أو غير مباشرة من أجل ابتلاع الثروات بطرق مبتكرة!
ولو تساءلنا عن البُعبُع الذي يهدد الخليج الآن، فلن نتردد في التصريح بالصهاينة وأمريكا أولًا؛ فالكذب الأمريكي (الترامبي) انكشف للحلفاء، بقدر انكشافه المُسبق للرأي العام في المنطقة، ولا يمكن لأي اتفاقية أمنية أو عسكرية مع واشنطن -أيًا كان الرئيس في البيت الأبيض- أن تضمن أمن واستقرار الخليج على حساب أمن واستقرار الكيان ومصالحه، ولنا في كلمة مندوب الصهاينة في جلسة مجلس الأمن الدولي المخصصة لمناقشة العدوان على الدوحة من اعتبارٍ يجب الاعتداد به؛ إذ هدَّد قطر علانية، وخيَّرها بين طرد قادة حماس من أراضيها أو أنها ستستهدفهم مجددًا. وهذا يدعو دول مجلس التعاون الخليجي إلى إعادة التفكير في عقيدتها العسكرية وتفكيرها الاستراتيجي؛ فالهجوم الصهيوني على الدوحة يمكن أن يُشن على أي دولة خليجية أخرى لأسباب متعددة، وفي كل واحدة منها من الأسباب ما يجعل الصهاينة يُحرّكون طائراتهم الحربية من أجلها أو يستغلون عملاءهم على الأرض.
بمعنى: ليس شرطًا أن يكون نفس المُسوِّغ الذي استُهدفت به الدوحة، وهو قادة حماس، وإنما أي مُسوِّغ يرى فيه الصهاينة أنه "مصدر إرهابي" -من مفهومهم طبعًا- أو مؤثر فيه، كجماعة أنصار الله في اليمن داخل أي أراضٍ خليجية، أو حتى نُخب فكرية تملك أيديولوجية وطنية في أي عاصمة خليجية. هُنا ستظهر سيادة الدول الخليجية مُستباحة، وأن هذه الدول غير قادرة على حماية مواطنيها وضيوفها. وهنا يظهر كذلك أن أمريكا ليست في موقع حماية الخليج؛ بل إنها تُصنَّف في خانة الأعداء.
والاعتداء الصهيوني بدأ في الدوحة، لكن رسائله هزَّت الخليج كله، وتبعث لكل عاصمة خليجية برسائل واضحة تجاه مستقبلها في الحقبة الصهيونية بعد غزة (مرحلة اليوم التالي) إن نجحوا؛ لأنها تكشف بجلاء طبيعة العقلية الاستعمارية الصهيونية، والتي يرى الإرهابي نتنياهو -بعدما زرع اليمين المتطرف في ذهنيته- أنه "في مهمة تاريخية وروحانية" لتحقيق ما يسمى بـ"دولة إسرائيل الكبرى". وقد صرّح بنفسه بذلك، وكشف أن "جوهر الصراع لم يكن يومًا مجرد تنافس على حدود جغرافية أو موارد، وإنما هو صراع على العقيدة والهوية". هنا يكشف هذا الإرهابي حقيقة مُرَّة، وصادمة للدول المُطبِّعة معه، وكل حلفاء واشنطن في المنطقة، وهي حقيقة صعبة التقبُّل منهم بسهولة، لكنها قد أصبحت الآن الحقيقة بعد ضرب الدوحة وتهديدها مُجددًا، والآن ينبغي تقبُّلها؛ لأنها تضع كل الدول الخليجية في خانة الأعداء لزعيم صهيوني مغسول دماغه بالفكرة الصهيونية العابرة للحدود.
كما إن الاعتداء على الدوحة يوضح من جهة أخرى أن ترامب رئيسٌ غير موثوق به، وتستحيل الثقة فيه، وأنه جاء للرئاسة لخدمة مشروع الصهاينة مهما دُفِع له. ومن هنا ينبغي أن نأخذ ما يقوله على محمل الجد، فقد قال إن "مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخارطة، ولطالما فكرت كيف يمكن توسيعها"، ويمارس الإرهابي نتنياهو تحقيق ذلك فعليًا، وبدايته من لبنان وسوريا ما بعد سقوط بشار الأسد ونظامه. وهنا لا بُد من طرح التساؤل الآتي: هل سقط بشار الأسد بفعل المقاومة الوطنية الحرة أم وراء ذلك الصهاينة؟ نطرحه كتساؤل للوعي العربي، وكلمة نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78 عن "إسرائيل الكبرى" وتغيير خريطة الشرق الأوسط، ينبغي على العواصم الخليجية أن تدرسها بعناية في ضوء مخاوفها الجديدة من أن يشمل التغيير منطقة الخليج والتي صدر بشأنها توجُّسات مرتفعة من قبل مسؤول قطري رفيع المستوى بعد الضربة على بلاده.
يبدو المشهد الآن أن الكثير من كبار الفاعلين السياسيين في الخليج كانوا يعتقدون أن تغيير خريطة الشرق الأوسط -كما يرسمها الصهاينة- سيستثني دولهم، بحكم علاقاتها مع واشنطن التاريخية، وبحكم تفاهماتها السرية والعلنية مع الصهاينة، لكن الآن تَبدَّد ذلك بالضربة الصهيونية على الدوحة والتي هي خيانة كبرى من ترامب ونتنياهو للدوحة، وهذا التطور في الوعي جاء في الوقت المناسب، وينبغي أن يُستثمر في الاتجاهات الصحيحة، ونبنيه في التوغّل في ما قاله نتنياهو عن تغيير خارطة الشرق الأوسط، وما ينظر ترامب لمستقبل جغرافية المحتلين في المنطقة. وهنا نطرح التساؤل التالي: كيف يمكن للصهاينة ومعهم واشنطن أن يُغيِّروا خارطة المنطقة؟!
بحثنا في الأعماق للإجابة على هذا التساؤل، وارتأينا أن نتوقف عند عام 1982، ففيه نشرت "صحيفة knanim" أو اتجاهات الصهيونية دراسة لكاتب صهيوني يُدعى عوديد ينون يقترح فيها تقسيم الدول العربية إلى دويلات طائفية وعرقية، وترافق ذلك مع آراء أمريكية تتماشى مع الفكرة نفسها، وما يحدث في دول حول الكيان الصهيوني من انفجار الطائفية والعرقية ليس تلقائيًا وإنما مُخطط له؟ وقبل وبعد هذه الفوضى يُجاهر اليمين الإسرائيلي بكل خططه القديمة للهيمنة على بلاد الشام وأحلامه في الخليج، وكل من يطلع على الخارطة التي عرضها الإرهابي نتنياهو في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سيرى ما نُحذِّر منه، فقد قدَّم خريطة جديدة تكشف عن نيته العدوانية في إعادة تشكيل المنطقة بما يتماشى مع مصالح كيانه.
ووفق ما كشفته صحيفة "واشنطن بوست" من أن العملية ضد قادة حماس في الدوحة كان مُخططًا لها أن تكون برية عبر استخدام عملاء الموساد على الأرض. فماذا يعني ذلك للعواصم الخليجية؟ وهنا نُذكِّر بالعديد من مقالاتنا في جريدة الرؤية التي حذرنا فيها من تفكيك المجتمعات بسياسات مالية واقتصادية وخطط نيوليبرالية تُنتج قضايا وظواهر سلبية وتُفكِّك المجتمعات كالبطالة والتسريح والضرائب والجبايات والانفتاح الفكري والثقافي غير المدروس، بحيث تكون هذه المجتمعات سهلة الاختراق.
وهنا يتعين على كل عقل سياسي في كل دولة خليجية أن يطرح التساؤل التالي: هل وراء كل ذلك اختراقات أجنبية لتفكيك المجتمعات وجعلها هشة لإثارة الفتنة الداخلية؟ علمًا بأن القوى الاجتماعية والأيديولوجية -خاصة- والديموغرافيا الخليجية تتشكل من القوى الناعمة التي تأثيرها أقوى من القوى الخشنة، لذا ذلك التساؤل لا بُد من أن يُطرح فوق الطاولات السياسية الآن وعاجلًا؛ فالمحافظة على قوة وتماسك كل مجتمع خليجي وارتباطاته الولائية والانتمائية ببلدانه وأنظمته ينبغي أن يكون الآن الأولوية الأولى؛ فلن تكون هذه الأنظمة قادرة على المواجهة عسكريًا ولا أمنيًا، ولكنها كذلك بقوتها الناعمة.
وبصرف النظر عن نتائج القمة العربية والإسلامية التي تُعقد في الدوحة وتضم 57 دولة، لن نتوقع منها قرارات تاريخية؛ كاعتبار حركة حماس مقاومة شرعية ضد الاحتلال، ودعوة قادتها للقمة وقطع علاقات الدول المُطبِّعة مع الصهاينة، ووقف أي نشاط أو تعاون معهم -نتمنى أن نخطئ في توقعاتنا- فإن المصلحة الخليجية العليا الوجودية تُحتِّم الآن من الدول الست العودة إلى استشرافات قادة دول المجلس الراحلين، الذين أقاموا المنظومة الخليجية عام 1981 على خطط وأهداف من واقع مستجدات أمنية إقليمية مستقبلية طويلة الأجل، وعليهم الآن كرد فعل لكل الإكراهات الوجودية التي أشرنا إليها سابقًا، إقامة تكامل أمني ودفاعي وسياسي واقتصادي عاجلًا، وتغيير عقلية التنافس إلى التضامن، وتشكيل اقتصاد خليجي واحد بقوة ديموغرافية لها صفة المواطنة.
في هذه الحالة فقط تكون دولنا الخليجية في مستوى الإكراهات الوجودية التي تُهدِّد كل واحدة منها.