خالد بن سالم الغساني
العلاقات العربية مع الولايات المتحدة الأمريكية منذ منتصف القرن الماضي وإلى اليوم تقوم على معادلة مختلَّة وغير متوازنة؛ فالعرب يعتقدون أنهم حلفاء ويتصرَّفون على أساس أنهم كذلك، فيما تتعامل واشنطن معهم كأدوات وظيفية مرتبطة بالمصلحة في كل لحظة ومتطلَّبات المصالح الأمريكية، لكن إخواننا لا زالوا بالرغم من ذلك يُصرّون على أنهم حلفاء، بينما في كل محطة مفصلية وعلى مر تاريخ هذه العلاقة، يظهر ذلك جليًا لا يحتاج إلى أي شروحات أو أدوات إيضاح؛ سواء في أزمات النفط وفي الحروب العربية-الإسرائيلية والغزو العراقي للكويت، ثم في احتلال العراق، مرورًا بما يُسمى "ثورات الربيع العربي"، أو ما رُوِّج له وأُسمِي بالفوضى الخلَّاقة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق، عندما تحدَّثت في 2005 عن ما يُسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد"، وما تلا ذلك من أحداث خيَّبت فيها واشنطن الحليف العربي الواهم.
حتى اليوم، وبعد كل تلك الأحداث والدلائل، لا زال العرب يتحدَّثون بلغة "الصداقة" و"التحالف الاستراتيجي"، بينما تُظهر السياسة الأمريكية وجهًا مُغايرًا ومُختلفًا، سمته الرئيسية: التوظيف المؤقت، ثم الانسحاب أو الطعن علنًا عند اقتضاء المصالح.
الولايات المتحدة دعمت أنظمة وحتى تنظيمات عربية كثيرة؛ بل وأنشأت واحتوت البعض منها لمقتضيات المصلحة والحاجة، ثم تخلَّت عنها بكل سهولة وبساطة ودون أن تلتفت خلفها، وساندت قوى معارضة ثم تركتها في منتصف الطريق، وروّجت للديمقراطية ثم غضَّت الطرف عن سحقها عندما لم تخدم نتائجها مصالحها. إنها سياسة براغماتية لا مكان فيها لثوابت أخلاقية؛ بل شبكة من الحسابات والمعادلات الباردة جدًا؛ حيث يمكن أن يتحوَّل الحليف إلى عبء، والوعود إلى أوراق ضغط أو مقايضة.
ومع ذلك، لا يزال يُصرّ الكثير من العرب على أن هذه العلاقة هي علاقة تحالف حقيقي، وأن التبعية السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية ستجلب لهم ضمانة للبقاء أو الحماية. يغفلون أن التحالف في المفهوم الأمريكي لا يعني الالتزام المتبادل؛ بل يعني الاستفادة القصوى قدر الإمكان وحد النهاية، من شريك ضعيف يفتقر إلى بدائل ولا يجيد معنى التوازنات والتعددية في الشراكات وحتى في التحالفات. لذا كانت وستتوالى الخيانات المتكررة، لأنها لم تدفع العرب إلى مراجعة عميقة؛ بل ظلوا في دائرة التبعية، مستسلمين لإغراءات الحماية الوهمية.
أما إسرائيل، فموقعها مختلف جذريًا بالنسبة لواشنطن، إنها ليست حليفًا؛ بل هي امتداد عضوي في المشروع الاستراتيجي الأمريكي. إسرائيل تمثل قاعدة كبرى وأساسية للمصالح الأمريكية في قلب المنطقة، وهي رأس الحربة في الحفاظ على الهيمنة الأمريكية وضمان التوازنات التي تمنع العرب من تشكيل قوة مستقلة.
الدعم الأمريكي لإسرائيل لا يمثّل مصلحةً آنية، إنما هو مؤسس وقائم على قناعة أيديولوجية وسياسية ثابتة وعميقة. ومن ثم فإن بقاء إسرائيل قويةً ومتفوقةً ومهابةً مصلحة عليا للولايات المتحدة الأمريكية؛ لذلك لا مجال للخيانة هنا ولا حتى للتراجع وإن على سبيل التكتيك.
ما يُعطى لإسرائيل من سلاح وأموال وحماية في المحافل الدولية لا يُقارن بما يُقدَّم لأي دولة عربية، ولا يُربط بشروط أو التزامات متبادلة؛ إنه التزام ثابت وعقيدة سياسية راسخة في وجدان المؤسسة الأمريكية.
من هنا يظهر الفرق بين العرب الذين يظنّون أنفسهم حلفاء في علاقاتهم مع واشنطن، رغم أنهم اكتشفوا ويكتشفون الخيانة مع كل منعطف، وبين إسرائيل التي تحظى بمكانة الشريك الذي لا يُمس، بل الذي يُعتبر ضمانة بقاء النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط.
أيها العرب، اسمعوا وعوا.. كما أن الحياة لا ترحم الغافلين، فلن تُنجيكم أوهام التحالفات اليوم. أنتم بالنسبة لواشنطن لستم أكثر من أوراق تُحرَّك كيف ومتى شاءت، أما إسرائيل فهي الطاولة التي تُرتَّب فوقها هذه الأوراق وتقرِّر مصيرها. فانظروا جيدًا في من تثقون ومع من تتحالفون، ولا تغرَّكم العقود الموقعة أو الوعود الزائفة؛ فالوهم أشد فتنة وخطورة من العدو المباشر، ومن غفل عن الحقيقة فقد فاتته اللعبة حتى قبل أن تبدأ.