"اكتب رسالة".. الوظيفة الغائبة الحاضرة في كل دائرة

 

علي عبدالحسين

ونحن في خضم البحث عن حلول لفتح مجالات العمل لأبنائنا، تبرز أمامنا وظائف وتخصصات ربما غابت عن أذهان الأكاديميين ومعاهد التدريب المهني، رغم حضورها اليومي في حياتنا العملية، ومنها تخصص "اكتب رسالة". هذا التخصص لم يُدرج حتى الآن ضمن المناهج أو البرامج التدريبية، لكنه حاضر بقوة في الدوائر الحكومية.

فما إن تتوجه إلى أيِّ وزارة لإنهاء مُعاملة حتى يُفاجئك الموظف بطلب: "اكتب رسالة". وحين تنتهي من صياغتها، تُحال إلى جهة أخرى لتجد نفسك أمام طلب جديد لرسالة أخرى تختلف عن سابقتها، بل ويُطلب منك أحيانًا إرفاق الرسالة الأولى مع الثانية! وما يزيد غرابة أن الموظف نفسه يرشدك إلى مضمون الرسالة وما يجب أن تحتويه، ثم يوجّهك لتسليمها إلى دائرة محددة، لتكتشف لاحقًا أن تلك الجهة ليست المعنية أصلاً بالموضوع. وعندها، يصبح لزامًا عليك كتابة رسالة ثالثة توضح الخلط الذي حدث في الرسالتين السابقتين!

من هنا تبرز الحاجة إلى متخصصين يعرفون متى يجب كتابة الرسالة، وكيف تُصاغ، وأي دائرة هي المعنية حقًا. فالمراجع العادي قد يجد نفسه في دوامة من الرسائل المتتالية التي تنتهي في لجان تجتمع بعد أسابيع لتصدر توصية جديدة، قد تكون في جوهرها مجرد "رسالة" إلى جهة الاختصاص لإبداء الرأي.

وليس خافيًا أن صياغة الرسالة تحتاج إلى مهارة خاصة، إذ يجب أن تراعي الشق القانوني، وأن تُصاغ بلغة رسمية وأسلوب لبق يتناسب مع ذوق المتلقي. ويُطلب من كاتب الرسالة أن يكون دقيقًا فلا يُغفل أي تفصيل صغير، حتى لا ينتهي الأمر بتعليق الطلب أو حفظه في الأرشيف دون مُوافقة.

وإذا عدنا بالذاكرة إلى سبعينات القرن الماضي، نتذكر أن هناك من امتهن الطباعة على الآلات الكاتبة، حيث كانوا يجتمعون في مطرح مقابل مستشفى الرحمة أو في روي قرب دائرة العمل، ليقوموا بطباعة الاستمارات والرسائل نيابة عن المراجعين الذين لم يكونوا يمتلكون آلات طابعة ولا يجيدون استخدامها، فضلاً عن عدم معرفتهم بالمحتوى أو الصياغة المناسبة للرسائل.

أما اليوم، فقد تطورت التقنية وتحوّلت معظم الاستمارات إلى نماذج إلكترونية، ولم نعد بحاجة إلى آلات الطباعة. لكن بقيت الضرورة قائمة لتخصص "اكتب رسالة". وربما يكون الحل في ظهور مكاتب متخصصة تساعد المراجع في هذه المهمة، ما لم تكن مكاتب "سند" تقوم بهذا الدور فعلاً.

هذا الواقع يكشف أن النماذج الجاهزة لا تكفي، فهي أحيانًا صالحة لجهة مُعينة، لكنها لا تلبي متطلبات جهات أخرى، كما أنها لا تواكب الجوانب القانونية أو القضائية التي تتطلب رسائل منفصلة، وكأنَّ كل جهة تحاول حماية نفسها من أي مساءلة باشتراط رسالة خاصة بها.

من المؤسف أن نكتب عن هذه الظاهرة ونحن في خضم الحديث عن التحول الرقمي وتسهيل الإجراءات، لكن الحقيقة أن التكنولوجيا وحدها لا تكفي إذا لم تتغير الأفكار.

وهنا يحضرني موقف أثناء قيادتي ورشة عمل حول برنامج إعادة هندسة الإجراءات (BPR)، حين سألت الحضور عن معنى BPR، فأجبت: يجب أن يكون المسمى إعادة هندسة العقول (Brain Process Re-engineering)، لأن تغيير الأفكار أصعب وأعمق أثرًا من مجرد تغيير الإجراءات.

وأخيرًا.. إن لم نُعد هندسة العقول قبل هندسة الإجراءات، سنظل نكتب رسائل بلا نهاية.

وإلى أن نلتقي مع وظيفة مستحدثة جديدة في مقال آخر تحت مسمى "عضو في لجنة"!

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة