د. أحمد الجهوري
تُعرَّف الحَوْكَمة على أنها الإطار والنظام الذي تُدار من خلاله المؤسسات وتُضبط أعمالها لضمان الالتزام بأفضل الممارسات، وقد برز هذا المفهوم بدايةً في مجال الشركات؛ حيث عرَّفت لجنة كادبوري عام 1992 الحوكمة بأنها "النظام الذي تُدار وتُراقب بمقتضاه الشركات".
لكنَّ مفهوم الحوكمة توسّع اليوم ليشمل المؤسسات العامة والخاصة على حد سواء، ويُركّز على إرساء الانضباط المؤسسي عبر مجموعة من المبادئ والمعايير والإجراءات التي تضمن تحديد المسؤوليات والواجبات بشكل واضح لكل من مجالس الإدارة والإدارات التنفيذية، مع مراعاة حماية حقوق أصحاب المصلحة. وبهذا المعنى، فإن الحوكمة تضع دورًا مؤسسيًا جوهريًا يتمثّل في ضمان أن تُدار المؤسسات وفق أُسس الشفافية والمساءلة والنزاهة والالتزام بالقانون؛ وهي ركائز أساسية لأي حوكمة سليمة. ومن خلال هذا الدور المؤسسي، تصبح الحوكمة أداة تنموية داعمة لجميع القطاعات عبر تحسين آليات اتخاذ القرار وتعزيز الرقابة الداخلية والخارجية على أداء المؤسسات.
والحوكمة هي: النظام الذي يتم من خلاله توجيه الشركة وإدارتها، نحو تحقيق التوازن بشكل أساسي بين صلاحيات الإدارة التنفيذية، وبين مجلس الإدارة بصفته ممثلًا للمساهمين، ومالكي الأسهم، وبما يضمن تحقيق الشركة لأهدافها. لذلك فهي تشمل: الهيكل العام والقواعد والسياسات لاتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون الشركة وتحقيق أهدافها.
وتغطي جميع جوانب ومجالات إدارة المؤسسة والتحكم فيها، بما في ذلك الهيكل التنظيمي، وسياسة الأعمال التجارية، والمبادئ التوجيهية، والسياسات الداخلية والخارجية وآليات المراقبة، والعلاقة بين مجلس الإدارة وبين أصحاب المصلحة (الإدارة التنفيذية، والموظفين وجميع الفئات الأخرى).
والأركان الأساسية لمبادئ الحوكمة تتمثل في: الشفافية والإفصاح، والعدالة والإنصاف، والمسؤولية الاجتماعية، والاستقلالية، وسيادة القانون، والكفاءة والفعالية، والإدارة الرشيدة للمخاطر.
وإذا عدنا إلى تاريخ الحوكمة في سلطنة عُمان، نجد أن عُمان من أقدم دول المنطقة تطبيقًا لحوكمة الشركات؛ فمع تطور الاقتصاد العُماني وزيادة عدد مؤسسات الأعمال، والمؤسسات العائلية، كان لابد من تطوير آلية لحوكمة كافة هذه المؤسسات في سلطنة عُمان.
وفي عام 1998 عندما بدأت أزمة سوق مسقط للأوراق المالية (بورصة مسقط حاليًا)، وحدوث المشاكل في الاقتصاد وفي الأسواق المالية، ظهرت الحاجة إلى وضع أنظمة تحكم عمل الشركات وضبط ممارستها. وكردة فعل للأزمة، تم فصل وتوزيع الحقوق والواجبات، مما نتج عنه -آنذاك- إنشاء 3 أجهزة منفصلة؛ هي: الهيئة العامة لسوق المال (هيئة الخدمات المالية حاليًا)، وسوق مسقط للأوراق المالية (بورصة مسقط حاليًا)، وشركة مسقط للإيداع وتسجيل الأوراق المالية (شركة مسقط للمقاصة والإيداع حاليًا).
لذا كانت سلطنة عُمان هي صاحبة أول سوق مال في الوطن العربي يتم فيه فصل الجانب التشريعي والرقابي عن الجانب التنفيذي. وفي عام 2002، تم إصدار ميثاق حوكمة الشركات الذي يُعد إطارًا مرجعيًا شاملًا لإدارة الشركات المساهمة العامة وتنظيمها ومراقبتها.
وفي عام 2003، أصبح تطبيق ميثاق حوكمة الشركات المساهمة العامة والعمل به ملزمًا، وتسري أحكمته على جميع الشركات المساهمة المدرجة في سوق مسقط للأوراق المالية.
لذلك، قامت الهيئة العامة لسوق المال في عُمان، بإصدار العديد من الإصدارات الملزمة للشركات التي تصب في تحسين وتطوير الحوكمة للشركات. على سبيل المثال: ضوابط معاملات الأطراف ذات العلاقة، الإفصاح الفوري للشركات عن المعلومات الجوهرية والالتزام بالمعايير المحاسبية الدولية لموضوعات الإفصاح.... الخ.
وفي عام 2015، ونتيجة لاهتمام السلطنة بحوكمة الشراكات وتطوير الشفافية، تم إنشاء مركز عُمان لحوكمة الشركات، والذي كان يهدف إلى تطبيق مبادئ الحوكمة ونشر مفهومها وثقافتها لدى كافة الشركات في السلطنة، وتحسين مستوى أداء رؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات بكافة أشكالها القانونية، وإداراتها التنفيذية، وكان لهذا المركز دور بارز في تعزيز الحوكمة المؤسسية في السلطنة.
ثم في عام 2025، تم إلغاء مركز عُمان للحوكمة والاستدامة، المعروف سابقًا بمركز عُمان لحوكمة الشركات، بموجب مرسوم سلطاني في يونيو 2025. وآلت كافة مسؤولياته إلى هيئة الخدمات المالية.
وبكل فخر يمكننا القول إن تجربة سلطنة عُمان تُعد من التجارب المُشرِّفة للحوكمة في المنطقة.
أما فيما يتعلق بدور جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، فإن الجهاز يمثل الهيئة الرقابية العُليا في السلطنة المُكلَّفة بحماية المال العام وتعزيز النزاهة ومراقبة كفاءة الأداء الحكومي. ويتمتع الجهاز بصلاحيات واسعة للتحقق من الأنشطة المالية والإدارية في كافة الجهات الحكومية والتأكد من التزامها بالقوانين واللوائح. كما يتميز باستقلالية تامة؛ حيث يتبع جلالة السلطان مباشرةً، وقد مُنح أعضاؤه ضمانات قانونية تكفل حياديتهم (مثل الحصانة من المساءلة إلّا بإذن رئيس الجهاز)، وهو ما يفوق حتى مُتطلبات المنظمات الدولية للرقابة العليا.
ويملُك الجهاز صفة الضبطية القضائية التي تمكّنه من اتخاذ الإجراءات القانونية حيال أي مخالفات مالية أو إدارية مكتشفة؛ بما في ذلك إحالة المُتورِّطين إلى الادعاء العام. وفي إطار دوره التوعوي، كثّف الجهاز في السنوات الأخيرة برامجه الموجهة للمجتمع لتعزيز وعي الأفراد بمخاطر الفساد، وأنشأ منصات إلكترونية لتلقي البلاغات والشكاوى المتعلقة بالمال العام. ومن أبرز أنشطته، تنظيم ندوة توعوية بمحافظة ظفار بتاريخ 31/8/2025 حول "الحوكمة ودورها في حماية المال العام وتعزيز الشفافية"؛ تأكيدًا على أهمية الحوار المجتمعي في هذا المجال.
ولم يكن نشاط الجهاز الرقابي بمعزلٍ عن البيئة التشريعية؛ بل جاء متكاملًا معها، إذ عزَّزت السلطنة توجهها نحو الحوكمة من خلال جُملة من القوانين والتشريعات الحديثة التي تُشكّل ركيزة قانونية راسخة لضبط الأداء الحكومي والمالي. ويُعد قانون حماية المال العام وتجنُّب تضارب المصالح (الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 112/ 2011) من أبرز هذه التشريعات؛ إذ وضع إطارًا قانونيًا شاملًا للحفاظ على المال العام ومنع استغلال المناصب لتحقيق مصالح خاصة.
كما جاء قانون الجزاء العُماني رقم 7/2018 ليُدرج جرائم الفساد (كالرشوة والاختلاس والإضرار بالمال العام) ضمن الجرائم الجزائية بعقوبات مشددة. فعلى سبيل المثال: تقول المادة (213): "يُعاقب بالسجن من (3) إلى (5) سنوات وبغرامة مساوية لقيمة المال موضوع الجريمة كل موظف عام اختلس أموالًا عامة أو خاصة أو ما في حكمها، وإذا تم الاختلاس بالتزوير أو استعمال محرر مزور، تُشدد العقوبة من (5) إلى (10) سنوات، وفي جميع الأحوال يُحكم بالرد والعزل من الوظيفة والحرمان من تولي المناصب العامة". وتنص المادة (214) على أنه: "يعاقب بالسجن من (3) إلى (5) سنوات وبغرامة مساوية للمال المستولى عليه كل موظف عام استولى على مال عام أو سهل ذلك لغيره، مع الحكم بالرد والعزل والحرمان من الوظائف العامة".
وإلى جانب ذلك، أسهم قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم 30/2016 في حماية المنظومة المالية الوطنية من الاستغلال غير المشروع؛ بما يشمل الأموال العامة، وبذلك اكتملت منظومة التشريعات الرادعة التي تُظهر حرص الدولة على تعزيز الشفافية والنزاهة وحماية المال العام.
وفي هذا السياق ممَّا جاء في الندوة التي أقيمت بتاريخ 31/8/2025، ومن خلالها أكد معالي الشيخ غصن بن هلال العلوي رئيس جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة -خلال كلمته- أن الجهاز يولي أهمية كبرى لموضوع الحوكمة؛ باعتبارها محطة مهمة لتبادل الرؤى والخبرات والبحث عن أفضل الممارسات وصولًا إلى توصيات عملية تدعم مسيرة الإصلاح المؤسسي والمالي. وقد انسجم ذلك مع الخطة الوطنية لتعزيز النزاهة (2022- 2030)، والتي حددت 5 محاور رئيسية؛ تتمثل في: إيجاد منظومة تشريعية شاملة، وأداء مؤسسي كفء، وقطاع خاص نزيه، وشفافية ومشاركة مجتمعية فاعلة، وشراكة وتعاون محلي ودولي.
كما شارك الجهاز في الندوة الوطنية التي نظمتها رئاسة أركان القوات المسلحة تحت عنوان "الحوكمة ودورها في تحسين الأداء وتعزيز الشفافية وتجويد الرقابة الإدارية والمالية"، والتي خرجت بتوصيات مُهمة؛ أبرزها: إصدار الأدلة والقوانين الداعمة لتحقيق رؤية "عُمان 2040" في مجال تعزيز النزاهة والرقابة، إلى جانب دعم وحدات التدقيق الداخلي في أجهزة الدولة.
وقد هدفت هذه الندوات إلى تسليط الضوء على المفاهيم الأساسية للحوكمة، وزيادة الوعي بدورها في تحسين الأداء وحماية المال العام، واستعراض أفضل الممارسات المطبقة لدى الجهات المشاركة؛ بما يعزز بناء بيئة مؤسسية تتسم بالكفاءة والشفافية، وتسهم في الاستخدام الأمثل للموارد.