عباس المسكري
على مرِّ القرون، كانت الأسواق التقليدية في عُمان نابضة بالحياة ومليئة بعبق الماضي، حيث تشهد كل زاوية فيها على إرث الأجداد وحرفهم المتقنة، فقد كان الأوّلون يبرعون في إدارة التجارة بمهارة، ولم تكن الأسواق مجرد أماكن للبيع والشراء؛ بل ساحات للتعارف وتبادل الأخبار وصناعة القرار المجتمعي، وتميّزت هذه الأسواق بالتنظيم الدقيق، فلكل سوق حِرفته الخاصة، ولكل مهنة مكانها المعروف، مما يعكس وعي العُمانيين المُبكر بأهمية التخصص وتقسيم العمل.
وكانت الإدارة التجارية تتم بروح من النزاهة والأمانة، حيث كان الوفاء بالعهود والصدق في المعاملة من أبرز القيم التي تحلى بها التجار، وقد أسهمت هذه الأخلاقيات في جعل الأسواق العُمانية مقصدًا للتجار القادمين من مختلف أنحاء الجزيرة العربية والهند وشرق أفريقيا، وهو ما منح السلطنة دورًا محوريًا في حركة التجارة الإقليمية آنذاك.
ومع مرور الزمن وتغير أنماط الحياة، أخذت هذه الأسواق تتراجع شيئًا فشيئًا، وتعرضت للنسيان أمام زحف المراكز التجارية الحديثة، فهجرها الناس تاركين وراءهم جدرانًا صامتة، وأزقة كانت تضج يومًا بالحركة، وأصوات الباعة، وروائح التوابل واللبان، لتصبح اليوم على حافة الاندثار والفقدان، ورغم هذا التراجع، يحمل كل حجر فيها قصة من إرث الأجداد، مما يجعل إعادة إحيائها فرصة لإعادة الماضي الجميل إلى الحاضر.
ولعل سوق نزوى مثالًا حيًّا على أصالة الأسواق العُمانية وحيويتها التجارية؛ فهو لا يزال حتى اليوم يعج بالحركة والنشاط، ويستقطب الزوار من داخل السلطنة وخارجها بما يقدمه من منتجات محلية وحرف تقليدية أصيلة، وهذا السوق يعكس صورة حقيقية عن الارتباط الوثيق بين الإنسان العُماني وإرثه التجاري والاجتماعي، ويبرهن أن التطور لا يعني إلغاء العراقة، بل يمكن أن يكون جسرًا لإبراز هذا الإرث واستثماره ليصبح عنصر جذب سياحي وتجاري يُعزز الهوية الوطنية ويدعم الاقتصاد المحلي.
يمكن إعادة الحياة للأسواق التاريخية في عُمان عبر مبادرات عملية تستند إلى دعم المواطنين وتشجيع الاستثمار المحلي، وأحد الاقتراحات الفعّالة هو تسليم المحلات للمواطنين مقابل إيجار رمزي لا يتعدى 30 ريالًا عمانيًا، مع إعفاء أولي لمدة خمس سنوات لتشجيعهم على تشغيل المحلات وتنشيط الحركة التجارية، وتقديم دعم مادي وقروض ميسرة بالتقسيط لضمان استمرار النشاط التجاري وتحقيق استدامة اقتصادية.
وفي ولاياتنا المتعددة، التي تضم أكثر من سوق تقليدي، يمكن إنشاء مجمع تجاري بالنمط التاريخي نفسه للأسواق القديمة، بحيث تُبنى المحلات والأزقة وفق العمارة العُمانية التقليدية، وتحافظ على الطابع التراثي للألوان والمواد المستخدمة، وهذا المجمع يقدم تجربة متكاملة للسائح والزائر، تجمع بين جمال الماضي وروح الأصالة، والحداثة الاقتصادية، ويُعزز التجارة والسياحة وفرص العمل للمواطنين.
كما إن هذه الأسواق قادرة على أن تتحول إلى منصات عملية لإحياء الحرف التقليدية عبر تخصيص محلات للحرفيين، إلى جانب الأنشطة التجارية الأخرى التي يديرها المواطنون، مما يجعلها نموذجًا متكاملًا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ويمنحها بُعدًا عمليًا يتجاوز مجرد حفظ التراث.
إنَّ إحياء الأسواق التاريخية والاهتمام بها يمكن أن يُشكِّل ركيزة اقتصادية واجتماعية تُسهم في معالجة واحدة من أبرز القضايا الوطنية، وهي قضية الباحثين عن عمل، فحين تُدار هذه الأسواق بأيدي المواطنين وتُخصص محلاتها للحرفيين ورواد الأعمال الصغار؛ فإنِّها تتحول إلى منصات حقيقية لخلق فرص عمل مستدامة، وتفتح المجال أمام جيل جديد من التجار العُمانيين، وبذلك لا نُحافظ فقط على الإرث التاريخي، بل نوظفه ليكون رافدًا للتنمية ومفتاحًا لمُستقبل أكثر استقرارًا لأبناء الوطن.
إنَّ الاستثمار في هذه الأسواق هو استثمار في إرث الأجداد وعبق الماضي، بما يضمن استمراره كجزء من هوية المجتمع، ويُعزز التنمية المستدامة على المدى الطويل، ويمنح عُمان فرصة فريدة للجمع بين التاريخ والاقتصاد في صورة حضارية واحدة.