التميز في مكافحة الفساد: رحلة المجتمعات نحو النزاهة والتنمية

 

 

 

د. علي بن حمدان البلوشي **

 

الفساد واحد من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة، فهو ليس مجرد اختلاس للأموال العامة، بل هو مرض شامل يهدد التنمية والعدالة الاجتماعية ويضعف مؤسسات الدولة. تتضح أضراره في الخدمات العامة، حيث تضعف جودة التعليم والرعاية الصحية وتتعثر المشاريع الحيوية. كما يقلل الفساد من ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة ويضعف بيئة الأعمال، ما يؤدي إلى تقليص الاستثمارات وتباطؤ النمو الاقتصادي.

أصبح الحديث عن مكافحة الفساد أكثر حضورًا في وسائل الإعلام والبرامج الحكومية، ليس فقط كقضية أخلاقية؛ بل كضرورة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة وتحسين مستوى الحياة. فالفساد لا يضر بالدولة وحدها؛ بل يؤثر على المجتمع بأسره، ويُضعف شعور الانتماء الوطني والعدالة الاجتماعية.

لقد تعددت أسباب انتشار الفساد، وغالبًا ما تكون مركبة بين العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. من أبرز هذه الأسباب:

- غياب الشفافية والمساءلة: عندما تفتقد المؤسسات إلى نظام رقابي واضح، تصبح الممارسات غير القانونية سهلة التنفيذ.

- تضارب المصالح: استغلال المناصب لتحقيق مكاسب شخصية يزيد من فرص الفساد.

- الضعف المؤسسي: نقص الخبرات والكفاءات داخل الهيئات الرقابية يخلق فجوات يمكن استغلالها.

- الرواتب الضعيفة: ضعف التعويض المالي للموظفين في بعض القطاعات يدفع البعض إلى البحث عن مصادر دخل إضافية بطرق غير قانونية.

وتؤكد التجارب الدولية أن مكافحة الفساد تتطلب معالجة هذه الأسباب بفعالية، من خلال سياسات متكاملة تشمل التشريعات، الرقابة المستمرة، وتعزيز ثقافة النزاهة في المجتمع.

وواجهت الدول هذا التحدي بطرق متعددة، أهمها:

- هيئات رقابية متخصصة: مثل الهيئات التي تمارس التدقيق المالي والتحقيق في الشكاوى، وإحالة المخالفين للقضاء.

- التشريعات القانونية: من خلال وضع قوانين صارمة تمنع الرشوة واستغلال المنصب العام، مع تحديد عقوبات رادعة.

- التعاون الدولي: تبادل الخبرات والخطط مع منظمات عالمية وإقليمية لتعزيز الكفاءة وتوحيد المعايير.

- الحملات التوعوية والإعلامية: نشر الوعي لدى المواطنين حول خطورة الفساد وتشجيع الإبلاغ عن المخالفات.

وتشهد بعض الدول العربية والخليجية اليوم تقدمًا ملحوظًا في هذا المجال؛ حيث أصبح نشر التقارير السنوية والتحديثات الدورية جزءًا من ممارسة النزاهة؛ ما يعزز من ثقة الجمهور ويشجع على الالتزام بالقوانين.

وتتنوع أدوات الرقابة بين التدقيق الدوري، حماية المبلغين عن المخالفات، والإفصاح عن الذمة المالية للمسؤولين. وقد أظهرت التجارب العملية أن هذه الأدوات قادرة على تقليل الفساد بشكل ملحوظ إذا ما تم تطبيقها بشكل متكامل ومستمر.

على سبيل المثال، شهدت بعض الهيئات الحكومية في المنطقة الخليجية تحقيقات ناجحة ضد حالات رشوة واختلاس، وتم استرداد أموال عامة كانت معرضة للضياع. كما ساعدت نظم الرقابة الرقمية في كشف مخالفات أسرع وتحسين كفاءة الإجراءات، مع ضمان حماية الشهود والمبلغين.

إن الحوكمة الرشيدة هي حجر الزاوية في مكافحة الفساد؛ حيث تعتمد على 4 عناصر رئيسية: الشفافية، المساءلة، سيادة القانون، ومشاركة أصحاب المصلحة.

- الشفافية: نشر البيانات والمعلومات حول الموازنات والمشتريات الحكومية يحد من فرص التلاعب.

- المساءلة: إلزام المسؤولين ببيانات دقيقة عن أفعالهم وقراراتهم.

- سيادة القانون: تطبيق القوانين بشكل عادل ودون استثناءات.

- مشاركة أصحاب المصلحة: إشراك المجتمع المدني والقطاع الخاص في عمليات المراقبة واتخاذ القرار.

بكل تأكيد أن تطبيق هذه المبادئ يُقلِّل من الفساد ويعزز ثقة المواطنين بالمؤسسات، ويخلق بيئة مناسبة للاستثمار والتنمية المستدامة.

ورغم التقدم الملحوظ، لا تزال هناك تحديات كبيرة، أبرزها:

  • صعوبة تتبع الأموال في ظل الشركات العابرة للحدود.
  • الحاجة إلى تطوير الكفاءات البشرية داخل الهيئات الرقابية.
  • التغلب على الثقافة المجتمعية التي قد تتسامح أحيانًا مع الرشوة أو المحاباة.

كما إن استمرارية الدعم السياسي والمؤسسي للهيئات الرقابية لضمان استقلاليتها وكفاءتها.

لقد أثبتت التجارب أن الجمع بين الأدوات القانونية، الرقابية، والتوعوية يُحدث فرقًا كبيرًا. ومن أهم هذه الحلول:

  • تبني المشتريات المفتوحة لضمان الشفافية الكاملة في جميع المراحل.
  • إنشاء سجلات الملكية الفعلية للشركات لمكافحة غسل الأموال والاستفادة من النفوذ.
  • تعزيز حماية المبلغين عن المخالفات عبر قنوات آمنة وسرية.
  • التحول الرقمي لتسهيل متابعة الأموال والمشروعات الحكومية.
  • نشر ثقافة النزاهة من خلال التعليم ووسائل الإعلام والحملات التوعوية.

في الختام.. فإن مكافحة الفساد ليست مهمة لمؤسسة واحدة أو دولة واحدة فقط؛ بل هي مسار جماعي يتطلب تكامل الجهود بين الحكومات، المجتمع المدني، القطاع الخاص، والإعلام.

إنَّ التميز في مكافحة الفساد لا يقتصر على الالتزام بالقوانين؛ بل يتجاوز ذلك إلى ابتكار آليات فعّالة، تعزيز الشفافية، وتحفيز كل عناصر المجتمع على المشاركة في بناء مؤسسات نزيهة.

وفي النهاية، الفساد ليس مجرد مسألة مالية؛ بل هو تهديد للثقة، العدالة، والتنمية. ومجتمعات اليوم التي تستثمر في النزاهة والحوكمة الرشيدة هي المجتمعات التي تبني مستقبلًا مستدامًا وأكثر ازدهارًا لأجيالها القادمة.

** أستاذ مساعد بالكلية الحديثة للتجارة والعلوم

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة