محمد بن زاهر العبري
لم يعد النفط وحده قادرًا على أن يرسم ملامح الازدهار في دول الخليج، فالعالم يهرول بخطوات متسارعة نحو مرحلة جديدة عنوانها "الاقتصاد الرقمي". اليوم لم يعد السؤال كيف نحافظ على إيرادات النفط، بل أصبح كيف نصنع الثروة بعد النفط؟ وهنا تتجه الأنظار إلى ثورتين متداخلتين: العملات الرقمية السيادية التي بدأت البنوك المركزية العالمية اختبارها، والذكاء الاصطناعي الذي يتغلغل في كل تفاصيل الاقتصاد والإدارة والتعليم والصناعة.
إن تجربة الريال الرقمي أو الدرهم الرقمي لم تعد مجرد فكرة في مراكز الأبحاث؛ بل أضحت خطوات تجريبية واقعية تشارك فيها بعض البنوك المركزية الخليجية بالتعاون مع شركاء آسيويين كالصين والهند. ويأتي هذا التوجه في إطار سعي الدول لتعزيز سيادتها المالية وتقليل الاعتماد على أنظمة التحويل التقليدية، إضافة إلى رغبتها في جعل المعاملات أكثر شفافية وأقل كلفة. غير أن نجاح هذه الخطوة لا يرتبط بالجانب التقني وحده، بل يحتاج إلى بناء ثقة مجتمعية راسخة، إذ إن التحول من عملة ملموسة إلى قيمة افتراضية لا يتم بسهولة ما لم يصاحبه وعي مجتمعي وتشريعات مرنة قادرة على حماية الاقتصاد من المخاطر.
وفي الموازاة مع هذا التحول النقدي، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة استراتيجية لتسريع تنويع الاقتصاد الخليجي. وإذا كان النفط قد مثل وقود القرن العشرين، فإن الذكاء الاصطناعي يمثل وقود القرن الحادي والعشرين. تدرك الحكومات الخليجية هذه الحقيقة، ولذلك وضعت هذه التقنية في قلب رؤاها الوطنية الكبرى، فالمبادرات الحالية لا تقتصر على رقمنة الخدمات الحكومية؛ بل تمتد إلى تحديث الصناعات عبر الروبوتات والتنبؤ الذكي بالأسواق، إضافة إلى الاستثمار في الاقتصاد المعرفي عبر الجامعات ومراكز البحث التي يُفترض أن تخرّج جيلًا قادرًا على الابتكار وصناعة المعرفة، لا مجرد استهلاكها.
غير أن الطريق ليس مفروشًا بالورود؛ فالمعضلة الكبرى لا تكمن في استيراد التقنية؛ بل في القدرة على توطينها وتكييفها مع الخصوصية الخليجية. والتحدي الثقافي والتعليمي لا يقل خطورة عن التحدي الاقتصادي؛ إذ لا يمكن بناء اقتصاد ذكي ما لم يكن هناك مجتمع مُتعلِّم قادر على استيعاب الأدوات الجديدة وتوجيهها نحو خدمة مصالحه الوطنية. وهنا يصبح الاستثمار في التعليم والتأهيل الرقمي قضية وجودية، لا مجرد خيار تنموي.
تقف الاقتصادات الخليجية اليوم عند مفترق طرق؛ حيث الفرص التاريخية تطرق الباب عبر القفز المبكر نحو الاقتصاد الرقمي، بينما المخاطر ماثلة في استمرار الاعتماد المفرط على العوائد النفطية وما قد يسببه من تأخر في الاستعداد الحقيقي.
والمسألة ليست تقنية فحسب؛ بل هي معادلة متكاملة من الإرادة السياسية والتشريعات المرنة والمجتمع الواعي، وهي عناصر إذا اجتمعت شكلت الأساس لاقتصاد متين لا يهتز بتقلب أسعار النفط أو تراجع الطلب العالمي عليه.
إنَّ التحولات الاقتصادية الكبرى لا تنتظر أحدًا، ومن يتأخر اليوم سيتحول غدًا إلى مجرد سوق استهلاكي للتقنيات القادمة من الخارج. الرهان الحقيقي لدول الخليج لا يكمن في النفط الذي يتآكل وزنه الاستراتيجي عامًا بعد عام؛ بل في قدرتها على بناء اقتصاد معرفي سيادي يستند إلى عملات رقمية محلية وذكاء اصطناعي فاعل. وإذا ما نجحت في هذا الرهان، فإن مرحلة ما بعد النفط لن تكون تهديدًا؛ بل فرصة لإعادة صياغة موقعها في الاقتصاد العالمي من جديد.