الطرب الخليجي الغنائي

 

 

 

حمد الناصري

يتميز الفن الأصيل "الطرب الخليجي الغنائي" بجمال الكلمة الأصيلة التي تُعبّر عن جمال حقيقي عن الفنّ الجميل المُتقن وعن قيم فنية عالية المهارة، تستوحي قيمها من التراث.. قيمٌ لا تتخطّى حدود الأخلاق، فريدة بكلماتها، مُثيرة بأحاسيسها، تكشف عن خصائص ومُعرّفات ومُصطلحات لها أسس فلسفية أو نظرية أو عاطفية غير فاضحة، وإشارات رزينة وإيحاءات فنية تعزز القيم وتأثيرها على حياة المُستمع، وتدفع الكلمات إلى شمولية الأحاسيس اللحنية ومشاعر الكلمات وتأثيراتها على الأداء واللحن والكلمات التي تُعَدّ جوهر الأغنية. فالمعاني والأفكار أداة تُوحي إلى فكرة الفن، كما أنّ اختيار الكلمات يُعزز من جمالية الأغنية وتأثيرها على المُستمع.

أكتب هذا المقال وأنا أستمع إلى مُثار أغنية قديمة جميلة، يعرفها الخليجيون أكثر من غيرهم، صغيرًا وكبيرًا، أغاني قديمة لها إيحاءات وتلميحات بسيطة، لكن وقعها في النفس كبير.. مثل أغنية "يا مركب الهند" تحملها ذاكرة غنائية لكونها مقطوعة فنية ذات قيم عالية وجودة صوتية بليغة، وإشارتها الفنية لا توحي إلى قطعة بحرية "سفينة" ولكنها تعني في إيحاءاتها إلى جمال الفن الجميل، وتأثيرات المشاعر والأحاسيس. وهذه الأغنية التُحفة، تعود إلى الشاعر يحيى عُمر، من يافع في اليمن السعيد، المُتوفى عام 1906م، وغنّاها الفنان ضاحي بن الوليد، المولود في مدينة المحرّق بالبحرين. وضاحي بن الوليد يُعرَّف على أنه من أصول إفريقية، واشتهر بأنه أسّس مع الفنان محمد فارس "فنّ الصوت". كما اشتهر برخاوة الصوت وبطريقة أدائه الصوتي المُتقن، إضافة إلى تمكّنه من العزف على آلة العود التي اشتهر بها أكثر الغنائيين الخليجيين، وكان دمثًا مرنًا، متعاونًا متواضعًا وخلوقًا.

وقد ارتبطت حقبة الزمن الجميل، وخاصة في الربع الأول من القرن العشرين، بثقافات فنية مُتنوعة في الجزيرة العربية، كالعراق (البصرة على وجه الخصوص) واليمن وسلطنة عُمان والسعودية وقطر والكويت، وعلى رأسها البحرين. كما إنّ الفن الغنائي ارتبط أيضًا بالشعر، الذي ألهم الفنانين فن الصوت وعذوبة الألحان التي جاءت من الحجاز واليمن. ويُعَدّ ضاحي بن الوليد أول من عمل على تطوير الألحان الصوتية -أو ما يُعرف بفنّ اللحن- لكن معظم المصادر تتفق على أن الشاعر والمغني وعازف العود عبدالله الفرج (1836-1901 أو 1903) هو مؤسس فنّ الصوت.

وفي الخمسينيات من القرن الماضي، تغنّى ضاحي بن الوليد بقصيدة "يا مركب الهند.. يا بو دجلين.." المقصود بها صاريتا المركب أو السفينة. وتلفظ في معظم بلاد الجزيرة العربية القاف إلى جيم.. مثال: دقل، دجل، أبو دقلين يُقال أبو دجلين. وهكذا، والدقل "الدجل" عبارة عن خشبة طويلة في بعض السفن أو المراكب تكون واحدة في الوسط، وبعض تلك السفن والمراكب لها صاريتان: واحدة في المقدمة والأخرى في المؤخرة، وكلا الصاريتين تحملان شراعًا يُمد من قاعدة الصارية إلى أعلاها، ويُعرّفه البعض بلسان الصارية.

والبحر بالنسبة لدول الخليج العربية يُمثل الصورة المليئة بالخير والمكسب ومصدرًا للرزق، إضافة إلى كونه جزءًا لا يتجزأ من تاريخهم البحري وثقافتهم الممتدة عبر قرون طوال من التجارة في البحر العميق المُجاور للخليج العربي وبحر عُمان الكبير، والذي هو امتداد للبحار العميقة التي تتصل بأقصى الشرق الإفريقي حتى مقديشو في الصومال؛ حيث وصل العُمانيون بثقافتهم البحرية إلى هناك. وساهموا بشكل كبير في نقل السلع والبضائع من الشرق إلى دول الجزيرة العربية والعكس، كما ساهموا في تطوير الملاحة البحرية واكتشاف خطوط ملاحة بين الشرق والغرب لم تكن معروفة من قبل.

والشعر مُلهم الفنانين في الجزيرة العربية، كأمثال ضاحي بن الوليد الذي تغنى بقصيدة "يا مركب الهند يا بو دجلين" وهو يشير إلى جمال الهنديات، لا إلى السفن أو المراكب التي تمخر البحر. شبّههنّ بمركب له دجلان، أي صاريتان، تُرفرف أشرعته وهو يمخر عباب البحر. ذلك التشبيه نقل جمال الهنديات إلى مُخيلة الشعر العربي كأشرعة مركب ذي صاريتين، بل هو إيحاءٌ إلى الجمال الناعم المعروف في نسوة بلاد السند قاطبة. وبلاد السّند إشارة إلى إقليم السّند تاريخيًا، والهند جزء منه. وقد خضعت الهند للحكم الإسلامي، وتاريخ السّند عريق ومشهود، عُرفت بحضارة وادي السّند، وتشمل باكستان وغرب الهند. وقد تفرّدت بلاد السّند بثقافة الصوفية.

ولا غروَ فقد اشتهرت أغنية "يا مركب الهند يا بو دقلين" في الفلكلور اليمني الجميل، وتُعَدّ من التراث الشعبي اليمني الأصيل. وهي من شعر وكلمات ولحن الشاعر العربي اليمني يحيى عُمر اليافعي. وحيث إن الشاعر اليمني اشتهر بتنقله من مواني يافع وعدن "حضرموت" إلى الهند، فقد ألهمته تلك التنقلات مخيّلة رقيقة واسعة، أسهبت فيها قريحته الشاعرية، وكان نتاجها هذه الأغنية. قال في مطلعها:

يحيى عمر قال قف يا زين / سالك بمن كحل أعيانك

من علّمك يا كحيل العين / من ذا الذي خضّب أبنانك

من شكلك في الحلا شكلين / وشك لولك ومرجانك

وراك يا بارز النهدين / كفّتني تحت روشانك

يا عسكر الشاش أبو صفين / وأنت باشا في صيوانك

حمَّلت يحيى عمر حملين / وصرت تعبان من شانك

لي شهر في شهر في شهرين / وأنا مناظر لبستانك

لا ذقت حبّه ولا ثنتين / نهبت خوخك ورمانك

والورد شفته على الخدين / وهو مطرح على أوجانك

يا مركب الهند أبو دقلين / يا ليتني كنت ربانك

أسعى بك البر والبحرين / وأحمل الماي بأخزانك

لك قسم في قسم في قسمين / لك قسم زايد على إخوانك

والمصلحة بيننا نصفين / لا ربَّح الله من خانك

يا ليت لي عند أهلك دين / أروح وأجي على شانك

وأختم قصيدي بذكر الزين / بُكرة نقيِّل بديوانك

 

في هذه القصيدة الشعرية ملامح من وصف المحبوب، وما هام به الحبيب، وما تعلق به من عشق وغرام وإحساس انجذبت إليه مشاعره النفسية. أخرجت لنا مقطوعة تتدفّق بلغة الأنغام والصوت الرخيم وبلحن متوازن وكأنه جرس واحد. ذلك الحس من الوصف البديع جاء راقيًا، كأنه يسمع همسها وحسيسها. فالضّيق يُبدي ألمًا، والسّعة تخلق أملًا. وتسخير الإبداع لإنعاش الذوق الرفيع هو ذلك الأمل، وبالأمل تنفرج الكُرب وينجلي الضيق. فالموسيقى والألحان والنّغم إيقاعات ترتبط ببعضها، وتُخرج مشاعر وأفكارًا بعذوبة صوت وغناء ونغمات مختلفة تُضفي على المُتلقي تعابير شاعرية وتنقله إلى إطار يُؤهله لأن يفيض بمشاعر تتدفّق شعرًا يأسر الألباب. صوت، لحن، إيقاع، نغَم، حتى وإن اختلفت الأصوات، لكن جرس اللحن لا يختلف. فالإيقاع نبض، يدفع إلى إحساس موسيقي، ويُخرج صوتًا يتفاعل مع النغَم. وما تنوع الألحان إلا وصولًا إلى اكتشاف أساليب فنية وخصائص موسيقية وتراثية غنية بتأثيراتها الثقافية وتنوع أساليبها الفنية.

وتلك فترة غنيّة عن التعريف، مرحلة اشتهرت بالتراث الثقافي والغنائي وتميزت بالفن الجميل في حقبة زمنية، ضمّت أصواتًا غنائية مُهاجرة بأصواتها إلى موطن الفن والغناء. ورسمت ملامح الأوصاف الجميلة في المحبوب بشكل دقيق معايش للواقع في مراحل مختلفة من ذلك الزمن الجميل، ارتبطت بذكريات يتذكرها الناس، مرحلة ماضية تميّزت بعلاقات البشر وحياة البساطة والتنوع الثقافي والفني.

وتجمع المصادر التوثيقية على أنّ ضاحي بن الوليد ومحمّد بن فارس هما أسياد فن الصوت الخليجي، فقد عملا على تأسيس موسيقى الصوت التي لم تُعرف من قبلهم، وهي طريقة العزف على العُود في منطقة الجزيرة العربية، كنموذج تقليدي مُستوحى من الموسيقى الكلاسيكية العربية. كما إنّ مُساهمة الفنان العُماني سالم بن راشد الصُوري، المولود في صُور العفيّة عام 1910 والمتوفى فيها عام 1979م، كانت بارزة. والفنان سالم الصُوري صوت خليجي يُعَدّ من أبرز الفنانين العُمانيين في القرن العشرين وأحد أعمدة الفن الغنائي العُماني. فالغناء فنّ جميل وذوق رفيع يطرب النفس ويسعدها، ويسهم في تعزيز شعور بالرّضا ويُعبّر عن مشاعر فنّ الارتباط بالمزاج وبفنّ التعبير الثقافي والفني كوسيلة إبداعية تهدف إلى تعزيز الهويّة الثقافية والفنية والمُساهمة في نشر التراث الفني لمجتمعات الجزيرة العربية، وعكست ثيمات ثقافية من تاريخنا الغنائي ومدى ارتباطه بتحدّيات مكانية وقيَميّة عميقة كان لها تأثير كبير على التجربة الفنية الخليجية.

كما إنّ الموسيقى والشعر ساهما في إثراء الكلمات وتكوين ثقافة لها قدرة على التأثير المباشر على قلوب البشر بمختلف نشأتهم وبيئتهم. فالموسيقى لعبت دورًا بالغ التأثير في الوجدان، لكونها جزءًا من تراث ثقافي ينتقل من جيل إلى آخر بكل ما تحمله من قيَم وثقافة اجتماعية. وكما يُقال: الموسيقى لا تكذب؛ فهي تحمل أسسًا ثريّة من علاقة المكان بالوجدان، أداءً وفنًا وإبداعًا.

والطرب الخليجي تميّز بأصوات رائعة من حقبة الجيل الذهبي، وقد شهد تطورًا في الأداء والغناء والموسيقى وفي تنوع المقامات، وفي استخدام آلة العود، لا سيما الآلات الموسيقية المختلفة التي اشتهر بها عدد من فناني الطرب الخليجي. مما أدى إلى شيوع أغاني رائعة ومشاعر طرب خليجي، قام بها فنانو الزمن الجميل تلحينًا وأداءً وغناءً. والفن الخليجي تأثّر بتراث أصيل كتراث فنون البحر الذي لامست عواطفه وجدانية المشاعر التي تأثّرت بعمق المواقف العاطفية الداخلية، وبرزت حالة من الإحساس العالي بشغف الكلمات الشاعرية. فالشعر جوهرة العاطفة الوجدانية، ولا غرو فإن الغناء يُعبّر عن أحاسيس عميقة، وينقل تجربة المشاعر إلى أحاسيس وجدانية إلى المُتلقي. أحاسيس دقيقة زاخرة بالعواطف، تعكس ذاتية ما يشعر به الفنّان من ألم وحزن وحُب وفرح وسعادة، تتجلّى في أسمى معانيها وفي ذاتية مُكوّناتها الشعرية والعاطفية، وتُعَدّ وصفًا ذاتيًا عميقًا دون تصنّع، يُلامس تأثيرها المُتلقي.

إنّ مسيرة الفن الغنائي الخليجي رسمت وجودًا وتفرّدًا مستمرًا، وأنّ المسيرة الغنائية تطوّرت على يد مُطوّرها الأول ضاحي بن الوليد، والفنان العُماني سالم الصُوري أحد أعمدة المسيرة الغنائية الخليجية. وأدخلت تحسينات مُتواصلة بأنغام الفنان محمد زويد، وتجددّت باحترافية الطرب العربي. وتُعَدّ الأنغام التي بدأها الفنان محمد زويد إحدى ركائز حِرفة الغناء وملامح من مُونولوج داخلي، ومن أهم مراحل التجديد في الغناء القديم.

كما إنّ الألحان الموسيقية التي مُزجت بالتراث العربي الأصيل وبتأثيرات موسيقى آسيوية مُستحدثة، عكست الهوية الثقافية لفناني الخليج العربي إيقاعًا وألحانًا، خصوصًا في الآلات التقليدية كالعود والرّبابة. وشكّلت الألحان واقعًا موسيقيًا إبداعيًا ظهر بصوت فنان العرب محمد عبده، هذا الفنان الكبير الذي أثبت أن واقع الفن يحتاج إلى حسّ إبداعي ومشاعر إنسانية واقعية، وأظهر الفنّ الغنائي كأداة رئيسية وثقافة مُتفرّدة ورسالة فنية امتازت عن العزلة الفنية وخلقت مُكوّنًا ثقافيًا مُستوحى من البيئة والإنسان، وكوّنت هويّة غنائية من روح المكان. والغناء في الزمن الجميل عبّر عن مشاعر كانت وسيلة للتعبير عن عواطف إنسانية عميقة شكّلت آنذاك جزءًا من قضايا صامتة.

ولا غروَ فإنّ ملامح التجديد على الساحة الطربية والغنائية ساهمت في إدخال تحسينات على المسارات الفنية، منذ اللبنة الأولى لحركة الطرب الخليجي، ترسيخًا لجذور أصالة الغناء والطرب الأصيل التي جاءت على نسقٍ شاعري متجانس مع دِلالاتها، واستطاعت أن تتفاعل مع مُغريات الشعر في الجزيرة العربية، التي تجعل الفنّ من مُحفّزات الإبداع. فالمشاعر التي ينقلها الفنّان بأسلوب غنائي متناسق مع اللحن الصوتي تُحدث تناغمًا بين وقع الكلمات ونبرة صوت الفنّان.

خلاصة القول: الغناء في الزمن الجميل له طعم وذوق ورائحة، وتطوير الغناء القديم يُتيح الوصول إلى أهمية تنوّع اللهجات الخليجية فنيًا وأداءً وإنتاجًا، وخلق تجربة فنية مُتوازنة بين الحداثة والأصالة في الغناء الخليجي.

كما نُوصي بإعادة تطوير وتحسين الأغاني القديمة وإعادة تجديدها وإدخال تحسينات أدائية فيها، إيقاعًا ولحنًا، واستخدام ثيمات من الألحان الموسيقية الجديدة على الأغاني القديمة، تطويرًا لأدائها وإرضاءً للمُتلقي الحالي.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة