محمد بن أنور البلوشي
أين تقف الأمم العربية اليوم، تربويًا وفكريًا واجتماعيًا؟
لعقود طويلة ظل هذا السؤال يتردد بإلحاح مُتزايد، لكن الإجابات ما زالت مُتناثرة ومُثقلة بجراح التاريخ وتحديات الحاضر. هيمنة القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، في المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية، ما زالت ترسم ملامح النظام العالمي.
غير أن السؤال الأعمق الذي ينبغي أن نطرحه هو: لماذا ترضى الأمم العربية غالبًا بموقع الدونية بدلًا من أن تسعى نحو السيادة الفكرية والاستقلال العقلي؟ هذه ليست دعوة إلى صدام أو حرب، وإنما نداء إلى الكرامة والتجديد، وإلى السعي لحياة آمنة ومزدهرة لمجتمعاتنا كافة.
لقد علَّمنا التاريخ أن حضارةً لم تنهض قط من دون قاعدة تعليمية راسخة. وكان العالم العربي ذات يوم منارة للعلم، في عصور العباسيين حين كانت بغداد ودمشق والقاهرة مراكز عالمية للفكر والمعرفة. فلاسفة ومفكرون مثل الفارابي وابن خلدون والغزالي لم يقدّموا إسهامات في الفلسفة والعلوم فحسب؛ بل صاغوا أيضًا رؤى تربوية وإنسانية عميقة. فقد شدد ابن خلدون في مقدمته على أن التعليم لا ينبغي أن يكون حفظًا آليًا للمعارف؛ بل عملية تَغرس في النفس والعقل الأخلاق والمسؤولية الاجتماعية. ومع ذلك، ما زالت نُظُم التعليم في كثير من الدول العربية تُعاني من هيمنة التلقين والبرامج الجامدة وغياب التفكير النقدي؛ وهي أمراض حذَّر منها ابن خلدون قبل قرون.
ولم يَغبْ هذا القلق عن أعلام الفكر الحديث أيضًا. فقد نادى طه حسين، عميد الأدب العربي، بأن التعليم حقٌ لكل فرد، ينبغي أن يكون مجانيًا ومُتاحًا للجميع دون تمييز بين رجل وامرأة أو غني وفقير. وحذّر من أن بقاء الأمة بلا تعليم مستنير يعني بقاءها في ذيل الركب الحضاري.
وكذلك دعا المفكر السوري ساطع الحصري إلى أن يكون التعليم أداة للوحدة العربية، يغرس الفخر باللغة والتاريخ والثقافة، ورأى فيه السبيل الأوحد لاستعادة الكرامة ورسم المستقبل. لكن الواقع العربي بعيد عن هذه الطموحات. ولا ننسى أن ساطع الحصري هو أحد رموز القومية العربية في العصر الحديث، وهو الذي أسس وزارة المعارف (التربية والتعليم حاليًا) السورية عام 1919 ووضع المناهج التربوية في سوريا والعراق، كما شارك في تأسيس كلية الحقوق في جامعة بغداد وكان مستشارًا لدى جامعة الدول العربية.
كثيرٌ من الدول تخصص ميزانيات زهيدة للتعليم مقارنة بما تنفقه على التسلح، والمدارس تفتقر إلى الموارد الحديثة، والمعلمون مثقلون بالإحباط وضعف الأجور، والمناهج بعيدة عن حاجات سوق العمل والاقتصاد المعاصر. هذه الفجوة تفرز البطالة والإحباط وتغذي الاضطراب الاجتماعي.
ومن الوهم أن نزعم أننا نبني مستقبلًا مُشرقًا للأجيال القادمة فيما نحن عاجزون عن إنصاف الحاضر. فشباب العرب يجدون أنفسهم مُحاصَرين بين نظم تعليمية مُتقادِمة وهياكل سياسية لا تشجع على الإبداع أو الابتكار. والنتيجة دوَّامة من خيبة الأمل؛ أجيال تنتظر التغيير الذي لا يأتي. وإذا عجزنا عن توفير الكرامة والحرية والفرص لشباب اليوم، فكيف نتوقع أن يختلف الغد؟ وتجسد القضية الفلسطينية هذا المأزق المشترك. فهي ليست قضية الفلسطينيين وحدهم؛ بل قضية كل أمة عربية تسعى إلى الكرامة والتحرر. إن احتلال فلسطين ومعاناة أهلها يعكسان ضعف الرد العربي وتشرذمه.
وما دامت أمة واحدة ترزح تحت القهر والاحتلال، فلن تعرف بقية الأمم العربية سلامًا أو نهضة حقيقية. وهذا ينطبق على فلسطين وغيرها من البلدان التي عانت الغزو الخارجي أو الانهيار الداخلي.
التعليم المُستنير لا ينبغي أن يُعدّ الأفراد لوظائف فحسب؛ بل ليكونوا قادرين على التفكير النقدي، ومقاومة الظلم، والمساهمة في العدالة العالمية. وكما قال باولو فريري، المفكر التربوي البرازيلي الذي تأثر به مثقفون عرب: إن التعليم يجب أن يكون ممارسة للحرية لا أداة للقهر.
ومن هنا ينبغي للمعلمين العرب أن يتبنوا هذه الفلسفات، أن يربّوا طلابهم على التساؤل والتحليل والعمل بشجاعة. وفي عصر العولمة لا يمكن لأي أمة أن تعيش بمعزل عن الآخرين؛ فجرح أمة واحدة يصبح جرحًا للجميع. والحروب والاحتلالات والظلم في أي مكان من العالم ترسل ارتداداتها عبر الحدود، تؤثر في الاقتصاد والهجرة والأمن.
ولهذا فإن إصلاح التعليم العربي ليس مسألة داخلية فحسب، بل جزء من نضال إنساني مشترك من أجل السلام والعدالة.
إنَّ استعادة الكرامة تقتضي من الأمة العربية أن تُجدِّد روح الاستقلال الفكري. وهذا لا يعني رفض المعارف الغربية، بل الانفتاح عليها بوعي ونقد، ودمجها مع تراثنا لإبداع نماذج تناسب واقعنا. لا بُد من الاستثمار في البحث، ومن إطلاق حرية الفكر، ومن تمكين المعلمين.
من دون ذلك سنظل مُتلقين سلبيين لنماذج مستوردة بدلًا من أن نصبح صانعي مستقبلنا. المهمة شاقّة، لكنها ليست مستحيلة.
فإذا كان العصر العباسي والأندلسي قد قدما أعظم الإسهامات للحضارة الإنسانية، فلا شيء يمنع العرب من أن يفعلوا ذلك مرة أخرى. الطريق لا يكمُن في إلقاء اللوم على القوى الخارجية وحدها؛ بل في إصلاح الداخل، وخاصة التعليم الذي يصوغ العقول ويحدد المصير.