د. صالح بن ناصر القاسمي
قال تعالى: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا" (الشمس: 7).
تلك النفس التي أودعها الله في أعماقنا، سرّ غامض يرافقنا أينما سرنا، نسمع همساتها في لحظات السكون، ونشعر بثقلها في أوقات الضعف. هي الميدان الحقيقي لمعركتنا الكبرى، ترفعنا حين نزكيها، وتهوي بنا حين نستسلم لشهواتها. كم مرة وجد الإنسان نفسه ممزقًا بين ما يشتهي وما يدرك أنه صواب؟ وكم مرة أحسّ أنه غريب داخل ذاته، يحاورها تارة، ويجاهدها تارة أخرى؟
إنها النفس؛ مرآة أرواحنا، ومحرّك قراراتنا، ومفتاح سعادتنا أو شقائنا. منها نُبعث إلى الطمأنينة، ومنها نسقط في مهاوي الاضطراب. وما أعظم أن يبدأ الإنسان رحلته بفهم هذا الكيان الخفي، الذي يُخفي بين طياته سرّ سلامه أو سبب عذابه.
ولأن النفس تختلف عن الروح، فقد ميّز القرآن بينهما؛ فالروح من أمر الله، لا يعلم حقيقتها إلا هو سبحانه، كما قال تعالى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الإسراء: 85). أما النفس فهي مرتبطة بالإنسان ارتباطا وثيقا، هي مرآة سلوكه، وميدان صراعه، ومصدر خيره وشره.
وقد وصفها الله بأسماء مختلفة، تتدرج بحسب حالها: فهي نفس أمارة بالسوء إذا انساقت خلف الهوى، ونفس لوامة إذا صحا الضمير فعاتبها، ونفس مطمئنة إذا بلغت مقام الرضا واليقين. هذه المراتب ليست أوصافا جامدة، بل هي حالات تتقلب بينها النفس البشرية كل يوم؛ فقد تجد المرء اليوم مطمئنا، وفي الغد أسيرا لشهواته، وهكذا يمضي في رحلة لا تنتهي إلا بآخر نفس يخرجه من صدره.
ولأن السيطرة على النفس أصعب من مواجهة العدو الخارجي، وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد الأكبر حين قال: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، والمقصود أن الانتصار على ميول النفس وهواجسها هو التحدي الحقيقي في حياة الإنسان. فعدو الخارج قد تهزمه في معركة، لكن عدو الداخل يسكن معك، يستيقظ حين تستيقظ، ويلازمك حين تنام، يضعك أمام امتحان دائم لا ينقطع.
إن الإسلام يعين الإنسان في هذه المعركة، فلا يتركه وحده. فقد وعده الله أن مجرد مقاومة الشر تُكتب له حسنة، وأن العمل الصالح يُضاعف أجره مرات عديدة. وهذا بحد ذاته رسالة طمأنة، أن الله يساند عباده في جهادهم الداخلي، ويكافئهم على مجرد مقاومتهم لهواهم.
وأول خطوة في جهاد النفس هي معرفتها. أن تجلس مع نفسك بصراحة، وتكشف ضعفها قبل قوتها. أن تعترف بميولها الخفية، وبأخطائك التي تخشى الاعتراف بها للناس. فالمعرفة بداية التغيير، أما أن تكتفي بالوعي دون مواجهة، فهو أشبه برؤية العلة وترك الدواء. النجاح الحقيقي هو أن تجرؤ على مخالفة نفسك، وأن تُجبرها على السير في طريق قد لا تهواه لكنها تحتاجه.
ولا ريب أن الدين هو المرشد الأول في هذا الطريق، لكنه ليس وحده؛ فالأخلاق والقيم الإنسانية تمد الإنسان بسند آخر. فالصدق، والأمانة، والرحمة، والعدل، قيم اتفقت عليها البشرية منذ القدم. ولذا ترى الناس جميعا -مهما اختلفت أديانهم- يتفقون على ذمّ الكذب، أو خيانة الأمانة، أو الظلم. إنها قيم إنسانية قبل أن تكون دينية. وقد قيل قديما: "الرجال الحقيقيون يتصرفون ويتحملون ويقبلون ما يليق برجولتهم، وإن كان الأمر على خلاف رغباتهم."
ورغم ما يشهده العالم من تغيّر في أنماط الحياة وتعدد أساليب العيش، يبقى الإنسان متعلقا بالثوابت الأخلاقية. فالنفس قد تزيّن له الانحراف، لكن داخله يبقى صوت يذكّره بالحق. قد يغلبه الهوى مرة، لكنه سرعان ما يعود ليستقيم، لأن الفطرة أقوى من الشهوة، ولأن الضمير مهما نام لا يموت.
وكثيرا ما تختبر الشدائد قوة النفس. كم من إنسان دفعته المحنة إلى السقوط في فخ الاستسلام، وكم من آخر صقلت المحنة إرادته فخرج منها أكثر قوة ونقاء. فالشدائد -كما يقال- لا تليق إلا بأصحابها. وفي قلب الألم يولد معدن الإنسان الحقيقي؛ فإن ملك زمام نفسه صبر وانتصر، وإن ضعف انساق خلف وساوسها فضاع. فالنصر هنا ليس نصرا على عدو ظاهر، بل على عدو يسكن في الداخل.
إن النفس أشبه بصندوق مغلق، يحمل أسرارا لا يطلع عليها إلا الله سبحانه. وقد يرى الناس وجوهنا المبتسمة، لكنهم لا يعلمون صراعنا الداخلي مع الخوف والذنب والأمنيات المؤجلة. لذلك فإن أشد ما يخيف الإنسان هو نفسه، ذلك الجزء الخفي الذي قد يفضحه أمام الله يوم يبعثر ما في القبور ويحصّل ما في الصدور. ومن هنا يعيش الإنسان في جهاد مستمر، يطهّر قلبه، ويجاهد أهواءه، رجاء أن يلقى ربه بقلب سليم.
ومهما طال الصراع، يبقى الأمل معلقا بالوصول إلى مرحلة النفس المطمئنة، التي تنعم بالسلام الداخلي، وتجد طمأنينتها في ذكر الله، وترضى بقضائه، وتستسلم لحكمته. تلك النفس التي جاءتها البشارة في قوله تعالى: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي" (الفجر: 27-30).
وهذا هو غاية الجهاد الأكبر: أن ننتصر على أنفسنا، أن نعيش بسلام لا تهزّه العواصف، ولا تفسده الشهوات، أن نصل إلى الطمأنينة التي تجعلنا أكثر قربا من الله، وأكثر حبا للحياة بما فيها من ابتلاء وامتحان. فالانتصار الحقيقي ليس أن تهزم خصمك في ساحة الدنيا، بل أن تهزم نفسك في ساحة الآخرة، وتعود إلى ربك راضيًا مَرضِيًا.