ترجمة: أنور الخنجري **
إنَّ تحذير توريس من تآكل الدعم الشعبي في محله، فمن نواحٍ عديدة، يختلف استياء النخبة من أفعال إسرائيل في غزة عن الاستياء العام المُتزايد، حيث تُظهر بيانات مركز بيو أنَّ الرأي العام العالمي تجاه إسرائيل قد تدهور في السنوات الأخيرة. وتُظهر بيانات مركز "غالوب" للأبحاث أنه فور هجمات 7 أكتوبر، أيدت غالبية الأمريكيين العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.
وفي الشهر الماضي، انقلب هذا السؤال نفسه في الاتجاه المعاكس، حيث بلغت نسبة الموافقة 32% فقط مقابل 60%. ويكشف استطلاع "يوجوف" أن غالبية الأمريكيين يؤيدون الآن خفض المساعدات العسكرية لإسرائيل. ومع انتقاد كل من النشطاء التقدميين على اليسار وانعزاليي حركة "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" على اليمين لعدوانية إسرائيل ومسؤوليتها، سيكون من الصعب على إسرائيل إقناع الكونغرس بتقديم المزيد من الدعم. فبمجرد أن يصبح انتقاد دولة ما ثنائي الحزبية، يكون التحريم ضد المزيد من النقد أمرًا مفروغًا منه.
ليست هذه المرة الأولى التي تُواجه فيها إسرائيل انتقادات أمريكية واسعة النطاق بسبب إدارتها للحرب في غزة، ولكنها قد تكون المرة الأولى التي تفشل فيها آليات دفاعها التقليدية في تحقيق أهدافها. إسرائيل ضحية جزئيًا لنجاحها، فبعد هجمات 7 أكتوبر مباشرةً، كان بإمكان مؤيديها الإشارة، وبحق، إلى أن إسرائيل كانت محاطة بميليشيات معادية مدعومة من إيران، وبالتالي كان اتخاذ إجراء صارم أمرًا مبررًا. لقد شلت إسرائيل الآن الحرس الثوري، وكذلك القوات التابعة لإيران في لبنان وسوريا وغزة. وقد تبددت أي حاجة متصورة لرد غير متناسب في غزة على هجمات 7 أكتوبر.
ومن المرجح أيضًا أن تُجدي الجهود المبذولة لخلط انتقادات إسرائيل بمعاداة السامية نفعًا أقل في عام 2025 مقارنةً بعام 2024. فبعد أكثر من عام من هجمات 7 أكتوبر، كان بإمكان المدافعين عن إسرائيل الإشارة إلى الارتفاعات المسجلة في معاداة السامية في الولايات المتحدة كوسيلة لتجاهل الانتقادات العامة. كما رفض المدافعون عن إسرائيل الانتقادات التي وجهتها الجامعات لأفعال إسرائيل، واعتبروها نتاجًا لبيئة معادية للسامية.
منذ تزايد حالات معاداة السامية المبلغ عنها العام الماضي، قد يعتقد المرء أن هذا الخط الدفاعي سيعمل بشكل أفضل الآن. ومع ذلك، فإن استجابة إدارة ترامب عام 2025 قد حيدته فعليًا، حيث إن استخدام البيت الأبيض معاداة السامية كذريعة سطحية لإلغاء تمويل الأبحاث وابتزاز الأموال من الجامعات قد أدى إلى نفور حتى لدى أولئك الذين قد يدعمون قمع الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل في الحرم الجامعي الأمريكي. لقد وصف المؤتمر اليهودي الأمريكي تصرفات إدارة ترامب بأنها "فضفاضة للغاية"، بينما وصفها آخرون ممن صاغوا سياسات معاداة السامية الفيدرالية بأنها "عكسية وخطيرة للغاية". إن الادعاءات المستمرة بمعاداة السامية داخل الحرم الجامعي وخارجه من بعض الجهات تؤدي إلى قدر كبير من السخرية، ومن المفارقات أن الاستشهادات المبالغ فيها من جانب إدارة ترامب وأنصارها بمعاداة السامية بشكل مستمر قد جردت هذه التهمة من الكثير من الأهمية.
هل هذه الرمال السياسية المُتغيرة مهمة؟ هذا يعتمد على من نتحدث عنه. بالنسبة لمجتمع يهودي أمريكي مُمزق بالفعل بسبب أفعال إسرائيل خلال هذه الحرب، فإنَّ التحول الأخير في المواقف العامة سيؤدي إلى بعض الخطب المُزعجة في الأعياد اليهودية. وبصفتي باحثًا يهوديًا في العلاقات الدولية، لديّ أعباء لا تُحصى أحملها معي كلما ناقشت هذا الموضوع. إنَّ فكرة أنَّ إسرائيل تُضحي بمكانتها كدولة ديمقراطية وعضو ذا مكانة جيِّدة في المجتمع الدولي مُقلقة للغاية لشخص يُريد أن تبقى إسرائيل ملاذًا آمنًا من أي مذبحة عالمية. ومع ذلك، فإنَّ غضبي على حكومة إسرائيل بسبب أفعالها المُذنبة، واليهود الذين استخدموا معاداة السامية كسلاح لقمع أي نقاش موضوعي حول حرب غزة - يتزايد باستمرار. أنا متأكد تمامًا من أنني لست اليهودي الوحيد الذي يشعر بهذه الطريقة.
بالنسبة لإسرائيل، ستكون الآثار أكثر تباينًا. ما دامت إدارة ترامب لم تنقلب عليها تمامًا- وهو سيناريو مستبعد- فمن المرجح أن حكومة نتنياهو تعتقد أنها قادرة على تحمل وطأة الخطاب العدائي دون أن تتكبد عواقب وخيمة. أولًا، لم تعد قاعدة الدعم السياسي الرئيسية لإسرائيل في الولايات المتحدة تعتمد على اليهود، بل على المسيحيين الإنجيليين. إذا استمر الدعم الأمريكي، مهما بلغت حدته، فلن تُقيد حرية إسرائيل في إدارة الصراع في غزة كثيرًا. بالنسبة لدولة معتادة على الانتقادات غير المتناسبة من المجتمع الدولي، فإنَّ تكاليف الانتقادات الحادة تتضاءل مقارنةً بالفوائد المتصورة لسحق حماس في غزة.
تكمن المشكلة الأكبر في المدى المتوسط إلى الطويل؛ حيث تواجه إسرائيل مخاطر حقيقية من كسب الحرب على الأرض وخسارة حرب الكلمات. لو استطاع نيكسون فقط الذهاب إلى الصين، لكان ترامب وحده قادرًا على سحق إسرائيل والبقاء ليروي قصتها. من المحتمل أن يغيّر ترامب موقفه إذا تزايد غضب حركة "لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا" من التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط. تجدر الإشارة أيضًا إلى أنه مع مرور الوقت، سيشعر عدد متزايد من الأمريكيين بتراجع تعلقهم بإسرائيل. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن دعم إسرائيل، حتى بين الشباب الإنجيليين، قد انخفض بشكل حاد.
مع انقلاب الرأي العام ضد إسرائيل، سيصبح من المقبول سياسيًا- بل من المفيد- أن يكون المدافعون عن إسرائيل أكثر صراحةً في انتقاداتهم. كلما ازدادت صرخاتهم علانية، قلّت حدة عدائهم في قاعات اجتماعاتهم. ونتيجةً لذلك، ستجد حكومة إسرائيل نفسها في مواجهة خطابٍ بغيض. تعترف معظم دول الجنوب العالمي بفلسطين كدولة. ومع المعاناة الأخيرة، تتخذ دول غربية مثل أستراليا وكندا وفرنسا والبرتغال والمملكة المتحدة خطواتٍ في هذا الاتجاه أيضًا. كما أن ألمانيا، المدافع الأشد ولاءً لإسرائيل في أوروبا، مترددةٌ أيضًا. ومع حذو دول أخرى حذوها، سينخفض عدد الدول التي ترفض الاعتراف بدولة فلسطينية إلى حفنةٍ قليلة.
بمجرد تطبيق مصطلح الإبادة الجماعية على موقف ما، يصعب على الجهة المستهدفة محو وصمة العار هذه. ستقضي إسرائيل العقود القليلة القادمة إما في معالجة أو صرف الانتباه عن ما تفعله قواتها حاليًا في غزة. قد يبرر الإسرائيليون ذلك بأنَّه في عالم تتآكل فيه المعايير، لن يكون للخطاب العدائي أهمية كبيرة. ولا يخطئ المدافعون عن إسرائيل عندما يشيرون إلى أنَّه في حين تعرضت إسرائيل للكثير من الانتقادات، فقد حظيت الأزمات الإنسانية في أفغانستان والسودان وسوريا باهتمام أقل. ومع تقليص الولايات المتحدة لتركيزها على حقوق الإنسان، قد تقرر قيادة إسرائيل أنها تستطيع التعايش مع الافتراء بحقها. ومع ذلك، فإن تآكل المعايير يقطع كلا الجانبين بالنسبة لإسرائيل. إن عالمًا أقل اهتمامًا بحقوق الإنسان ومعايير السيادة يمكّن إسرائيل من فعل ما تُريد في غزة، ولكنه يمكّن أيضًا جيران إسرائيل من معاملتها بالمثل.
أسوأ سيناريو لإسرائيل هو أن تجد نفسها في نفس موقف جنوب إفريقيا إبان حقبة الفصل العنصري في ثمانينيات القرن الماضي. قاومت الولايات المتحدة طويلًا الضغط على حكومة جنوب إفريقيا البيضاء، ولكن في عام 1986، تجاوز الكونغرس حق النقض الذي فرضه رونالد ريغان، وانضم إلى المجتمع الدولي في فرض عقوبات على بريتوريا. كان الجنوب أفريقيون معزولين دبلوماسيًا وغير قادرين على المشاركة في الألعاب الأولمبية وغيرها من الأحداث الرياضية الدولية وقد يواجه الإسرائيليون نبذًا مماثلًا. من المرجح أن يجد الأكاديميون الإسرائيليون أنفسهم محرومين من حضور المؤتمرات والندوات الدولية، وسيتوقف السياح عن السفر إلى إسرائيل، وسيجد الإسرائيليون صعوبة أكبر في السفر إلى أي مكان آخر بدون جواز سفر ثانٍ. ستستمر إسرائيل في الوجود، لكن سكانها لن يكونوا موضع ترحيب في أي مكان خارج إسرائيل.
بعد ما يقرب من عامين من هجمات 7 أكتوبر، أصبحت إسرائيل بلا شك أكثر أمانًا. لكن الثمن كان باهظًا وسيزداد ارتفاعًا. بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على نظام الفصل العنصري في بريتوريا، لم يستمر النظام هناك لأكثر من خمس سنوات. وإذا تزايد العداء العام الأمريكي تجاه إسرائيل، مما يؤدي إلى تحول في السياسة، فإن أيام الحكومة الإسرائيلية قد تكون معدودة على نحو مُماثِل.
مقال نشرته مجلة واشنطن والعالم في 16 أغسطس 2025 بقلم دانيال دبليو. دريزنر.
دانيال دبليو. دريزنر عميد أكاديمي وأستاذ مرموق في السياسة الدولية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية، وهو مؤلف كتاب "عالم دريزنر".