رصاصة في قلب الإنسانيّة

ريتّا دار

Darrita936@gmail.com

 

قرأت ذات مرّة سؤالًا استنكاريًّا عالقًا في فضاء الإنترنت: "لماذا حين ينكسر قلب، لا يتوقّف الكوكب لثانية، احترامًا لكارثيّة الأمر؟!".

أعدت قراءته بصمت وكأنّني عثرت فيه على مرآة صغيرة.

فكم مرّة انكسر القلب، ومرّ العالم كأنّ شيئًا لم يكن؟

وكم مرّة مات إنسان، وضحكات التّلفاز في البيت المجاور مسموعة.

لكنّني أريد أن أضيف لهذا السّؤال: وماذا عن الموت؟

لماذا حين يُنتزع إنسان من الحياة، لا تتوقّف السّماء عن إرسال شمسها، أو الرّيح عن بعثرة أوراق الأشجار؟

لماذا لا يرتبك الضّوء؟ لا يختنق الهواء؟

لماذا لا يفقد النّاس شهيّتهم للحياة لدقيقة واحدة فقط، احترامًا لمن خُلع من الحياة بقوّة وغدر؟

الموت بطبيعته، حدثٌ فاصل.

مُوجع، لكنّه جزء من النّسيج الكونيّ، مثله كمثل تعاقب الفصول الأربعة، أو الّليل والنّهار. يُولد الإنسان ويكبر، ثمّ ينطفئ. يموت الكبار بعد أعمار مديدة، ويموت بعض الأطفال سريعًا كومضة. يموت النّاس من أمراض خبيثة، من فواجع الطّبيعة، من أخطاء لم تكن مقصودة.

كلّ ذلك، رغم قسوته، مفهوم. مُؤلم نعم، لكنّه منسجم مع محدوديّة الحياة.

لكن ما لا أفهمه، ولا أستطيع أن أدرّب قلبي على تقبّله، هو الموت الناتج عن القتل. القتل بحدّ ذاته كفعل يقرّر فيه الإنسان أن يقف أمام حياة شخص آخر، ويقطعها من المنتصف، كما لو كان يمزّق ورقة لا تعنيه.

القتل سلوك غير طبيعيّ

ليس لأنّ ضحاياه أبرياء فقط، بل لأنّه كسر لكلّ ما فينا من معانٍ. إنّه ضدّ الحبّ، ضدّ الطّبيعة، ضدّ الفطرة، ضدّ الرّحمة.

كلّما قرأت رقمًا في نشرة إخباريّة عن ضحايا حرب هنا أو هناك، أرى الوجوه خلف تلك الأرقام. أُمّهات، أطفال، شباب لم تكتمل ضحكاتهم. حين أسمع عن قصف، أو حادثة طعن، أو تفجير، أفكّر في وجه الشّخص الّذي لم يكن يعرف أنّ هذا هو صباحه الأخير. أفكّر في الحذاء الّذي نُسي في زاوية ما، في الهاتف الّذي ظلّ يرنّ، في الرسائل الّتي لم يمنح القاتل المقتول لحظة ليقرأها.

والمثير للسخرية حقّاً أنّ الإحصائيّات الحديثة تقول إنّ عدد وفيّات الحروب في القرن الحالي، رغم فداحته، لا يُحدث تغييرًا جذريًّا في معدّلات الوفيّات العالميّ، لأنّ سكّان العالم باتوا بالمليارات.

لكن هل يُقاس الحزن بالحجم والكمّ؟

هل يصبح الألم أقلّ لأنّ البشر أكثر؟

إنّ موتًا واحدًا غير طبيعيّ كفيل بأن يهزّ جدار الرّوح، فكيف بملايين!

منذ سنوات، لا أقف على قدمي، بل على قلبي.

قلبي الّذي ما زال يحمل في تجاويفه صور من رحلوا.

لا أحد علّمني كيف أتعامل مع الموت حين يكون مفاجئًا، عنيفًا، وعبثيًّا.

كلّ موت غير طبيعيّ يؤلمني.

ليس فقط لأنّه شاذّ، بل لأنّه انتهاك للمنطق الإنسانيّ.

نحن نُولد لنعيش. نُخلق لنُعانَق ونُحَبّ، لا لنُقتل.

حين تُقتل حياة أيّ كائن حيّ -حتّى شجرة- بيد بشر، يموت جزء في كلّ واحد منّا، حتّى لو لم نعرف الضّحيّة يومًا.

وحين نعتاد على ذلك، حين نُصبح قادرين على تقبّل الخبر والانتقال مباشرة إلى ما بعده، فهذا يعني أنّ ضررًا عميقًا أصاب إنسانيّتنا.

الموت حقّ، نعم.

لكنّ القتل ظلم.

وما بين الموت والقتل، يقف الإنسان مذهولا، مُتألّما، عاجزا، لا على قدميه.. بل على قلبه.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة