الحُبُّ والعشقُ في كتابات الفلاسفة المسلمين

 

بدر بن خميس الظّفري

@waladjameel

 

في قلب الحضارة الإسلامية، ظل الحب موضوعًا يثير القريحة، ويشغل العقل، ويستدرج الروح نحو آفاق بعيدة، تتداخل فيها العاطفة بالفكر، والشغف بالتقوى، والهوى بالحكمة. ودار الحديث عنه بين الأدباء والمتصوفة، وبين الأطباء والفلاسفة، في لغة تنوسُ بين التذوق والتحليل، وبين الرقة والتشخيص، فنتج عن ذلك تراث ثري يشهد على عمق التجربة الإسلامية في فهم هذه العاطفة الإنسانية.

ومن أوائل من خاضوا هذا المسلك أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الأديب والمفكر العباسي الذي اشتهر بفكره النقدي وسخريته الذكية. في كتابه "النساء" و"رسالة القيان"، اقترب من الحب بوجه متعقل، إذ عدّه شعورًا راقيًا حين يُضبط، ناصحًا الإنسان بالتأني في أمره وعدم التسرع في الانسياق خلفه. وقد ذكر الجاحظ في كتابه أن الحب "أعظم لذات الدنيا"، حين يُقترن بِخُلُقٍ كريم وتدبير حكيم. كانت نظرته محاولة لصوغ توازن بين لذة العاطفة وحكمة النفس، ورأى أن العاشق، إذا امتلك زمام قلبه، ظفر بجمال الشعور دون أن يفقد رشده.

وإذا كان الجاحظ قد اقترب من الحب بعين العقل، فإن ابن حزم الأندلسي، فقيه قرطبة وأديبها، قد تفرّد في تصويره، وجعل من كتابه "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلاف" عملاً خالدًا يُعد من أعمق ما كتب في التراث الإسلامي عن الحب. وقد ذكر ابن حزم في كتابه أن الحب يبدأ بالمزاح وينتهي بالجد، وهو قول شهير استهله بعبارة بليغة: "الحب، أعزك الله، أوله هزل وآخره جد." بهذه الجملة، لخص طبيعة الحب كتجربة تبدأ بخفة الشعور ثم تتعمق شيئًا فشيئًا حتى تسيطر على النفس وتستقر في أعمق أعماقها.

وقد قدّم ابن حزم في هذا الكتاب تحليلًا نفسيًا دقيقًا لأنواع الحب وأعراضه، متناولًا العلاقة المتشابكة بين النفس والعين والقلب، في سرد مترابط تتجلى فيه الرهافة والوضوح. يرى أن العين هي نقطة البداية، حين تقع على صورة تلامس خيوطًا خفية في الداخل، فتبدأ النفس في نسج خيالها وتأملها، ويتحرّك القلب على إيقاعٍ لا تصنعه الإرادة، بل تدفعه الألفة الغامضة. أرجعَ الحب إلى انسجام الأرواح، مستلهمًا تصورًا ميتافيزيقيًا يرى أن الأرواح، في أصلها، كانت متآلفة في عالم علوي، ثم تفرقت في الأجساد، وظل كل جزء منها يحنّ إلى شبيهه، ويجذبه إليه متى رآه. وقد منح هذا الفهم الحب بعدًا روحانيًا يرتبط بالمطلق، وقرّبه من التصورات الفلسفية التي تتعامل مع الحب بوصفه نداءً خفيًّا تتجاوب معه النفوس لا الأجساد وحدها.

في الجانب الآخر من المشهد، وقف أبو بكر الرازي، الطبيب والفيلسوف، بموقف أقرب إلى رؤية الأطباء للداء. نظر إلى الحب أنه انفعالٌ نفسيٌّ يصيب الجسد والعقل معًا، وذكر في بعض رسائله أن العشق حالة تضعف التوازن الداخلي، وتتطلب نوعًا من الانشغال التدريجي أو الابتعاد لضبط إيقاع النفس. وتحدّث الرازي أيضًا عن أعراض العاشق التي تشبه اضطرابات الحواس، وأشار إلى ضرورة تهذيب الانفعالات عبر توجيه الإرادة نحو ما ينفع. في هذا السياق، ظهر الحب في فكر الرازي مسألة يمكن التعامل معها بالأدوات ذاتها التي تُعالج بها الانفعالات الأخرى.

وجاء ابن سينا، الفيلسوف والطبيب البارز، ليضيف إلى هذا التيار رؤية دقيقة تشبه علم النفس الحديث. ففي كتابه "القانون في الطب"، أشار إلى أن الحب يُدرَك من خلال تغير النبضات وتقلب المزاج، وأن المحب يعاني من أعراض تشبه حالات الهذيان أو الحزن العميق. وقد ذكر ابن سينا أن اسم المحبوب يُحدث في قلب العاشق تغيرًا واضحًا في النبض، مما جعله من أوائل من تناولوا الحالة العاطفية من منظور تشخيصي. وتحدّث عن العشق بوصفه حالة تؤثر على النفس والجسد، وتستدعي التأمل لاجتناب آثاره إذا تفاقم. ورغم طابعه العلمي، فإن فلسفته لم تُغفِلْ أسمى صور الحب، إذ أشار إلى ارتباط النفس بالخير والمطلق، كصورة راقية من صور المحبة.

أما في عالم التصوف، فقد كانت للمحبين رؤى متحررة من قوالب المنطق. محيي الدين ابن عربي، المتصوف الأندلسي المعروف، رأى في الحب جوهر الوجود. وقد ذكر ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" أن المحبة غاية بذاتها، وأن المحب لا يطلب من محبوبه شيئًا سوى التواجد في أثره. يتحدث عن العاشق الذي يظل يقظًا لأن قلبه مأهول بذكر الحبيب، ويرى في الحب شعورًا كونيًا يسمو بالوجود. في أشعاره، قال عبارته الشهيرة: "أدينُ بدينِ الحبِّ أنّى توجّهتْ ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيماني"، فالحب عنده دين يختزل الوجود، ويكشف عن جوهر التوحيد في لباس الوجدان.

وفي الشعر، تألق تيار الحب العذري، الذي تميز به العصر الأموي، واشتهرت به قبائل بني عذرة. شبّانها عشقوا محبوباتهم حتى الموت، وارتبطت أسماؤهم بقصص الوفاء والتجرد، حيث لا مكان للمقايضة ولا رغبة في الوصال. وقد كتب قيس بن الملوح، المعروف بمجنون ليلى، أبياتًا خلدها التراث العربي، منها:

أمرّ على الديارِ ديارِ ليلى *** أُقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبُّ الديار شغفن قلبي *** ولكن حبّ من سكن الديارا

إن الحب عند قيس قوة تحول الجمادات إلى كائنات نابضة، وتمنح المكان روحه من خلال من سكنه.

هذه الروح العاشقة انسحبت أيضًا إلى الأدب الفارسي، كما في شعر جلال الدين الرومي، الذي جعل من المحبوب الأرضي رمزًا للشوق الإلهي. وقد كتب: "لا تكن بلا حبّ، كي لا تشعر بأنك ميت؛ مُتْ في الحب وابقَ حيًا أبدًا"، فالحب عنده طاقة تُحيي القلب وتفتح للنفس أبوابًا لا تُغلق.

بهذا الفيض من الرؤى، قدّم الفكر الإسلامي الكلاسيكي تجربة ناضجة في تأمل الحب، حيث تلاقت في صفحاته حكمة العلماء، وشغف الأدباء، وتجليات الصوفية، ليبقى الحبّ مرآةً يطل منها الإنسان على نفسه، ومفتاحًا يفتح أبواب الوعي على معانٍ تعبر حدود العقل والمادة.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة