غزة تموت قتلًا وجوعًا: العالم كله يتفرج على فصول الجريمة

خالد بن سالم الغساني

في الوقت الذي تتسابق فيه الأمم على إثبات إنسانيتها عبر شعارات رنانة ومؤتمرات تُصرف من أجل إقامتها وتنظيمها ملايين الدولارات، يقف العالم صامتًا، متفرجًا على مأساة غزة. غزة المقاومة والعزة، التي تحوّلت إلى رمز للصمود والألم، تُترك لتواجه مصيرها وحيدة، بينما يواصل الكيان الصهيوني جرائمه من قتلٍ وتدميرٍ وتجويع، دون أن يرفّ له جفن أو يثير استنكارًا حقيقيًا يتجاوز حدود البيانات الجوفاء والتنديدات الخجولة.

ما تبقى من غزة يموت جوعًا، ليس فقط بسبب الحصار الذي يخنقها منذ عقود، بل لأن العالم اختار أن يغمض عينيه عن هذا الظلم الممنهج، عن أطفال وشيوخ ونساء أكلهم الجوع، ولم يبق منهم سوى أشباح أناس كانوا هنا يلعبون ويتسامرون ويغنون. أطفالٌ يبحثون عن لقمة خبز بين الأنقاض، وأمهاتٌ يبكين أبناءهن، ويرضعنهم دموعهن تحت وطأة القصف، وشيوخٌ فقدوا الأمل في رؤية يومٍ يحمل معه العدالة. إنه واقعٌ يوميٌ مرّ بطعم الحنظل وسائل بلون الدماء، تفرضه آلة الحرب الصهيونية التي لا تعرف الرحمة ولم يستطع أحد إيقافها، بينما العالم يشاهد ويصم أذنيه وكأن الأمر لا يعنيه.

الصمت الدولي أصبح أكبر تواطؤ في خيوط وفصول جريمة تُرتكب أمام أنظار العالم ليل نهار. كيف يمكن تفسير هذا الهدوء المريب ومشاهد الدمار تُبث على شاشات العالم؟ كيف يمكن لدولٍ تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان أن تستمر في الصمت وأخرى تستمر في دعم كيانٍ يمارس الإبادة الجماعية بكل وقاحة؟

إن السكوت عن جرائم الكيان الصهيوني قد سجّله التاريخ مشاركة كبرى في الجريمة. فكل دولة تختار تمويل هذا الكيان أو إقامة أي شكل من أشكال العلاقة معه، هي تشجيع وتسليح ودعم كبير له للاستمرار في جرائمه. وكل منظمة دولية تفشل في اتخاذ موقف حاسم، وكل فردٍ يلتزم الصمت خوفًا أو لا مبالاة، هو شريكٌ في هذا الظلم وفي هذه الجرائم.

وحين تُرفع راية المقاومة في غزة، تتحرك آلة الدمار الصهيونية بدعمٍ من المتواطئين والمتخاذلين. حركات المقاومة الفلسطينية، التي حملت على عاتقها الدفاع عن كرامة شعبها وحقه في الحياة، أصبحت الذريعة التي يتذرع بها الكيان الصهيوني لتبرير إبادته الجماعية. داعمو هذا الكيان من الغرب، وبعض من أبناء جلدتنا العرب والمسلمين، الذين لا يمكن وصفهم سوى بالمتخاذلين والمتصهينين، يسارعون إلى وصم المقاومة بالإرهاب، متجاهلين أنها ردٌ طبيعي على عقودٍ من الاحتلال والظلم. إن هذه المقاومة، التي تقاتل بأبسط الوسائل ضد ترسانة عسكرية مدعومة عالميًا، هي صرخة شعبٍ يرفض الاستسلام، لكنها تُستخدم كحجة لتشديد الحصار وقتل الأبرياء، في جريمةٍ يتحمل وزرها كل من يدعم الكيان أو يبرر دماره وقتله أو يسكت عن جرائمه.

غزة قضية إنسانية، هي اختبار لضمير العالم، إنها مرآة استطاعت أن تعكس زيف الشعارات التي ترفعها الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات التي تدّعي حماية الإنسانية. عندما يُترك شعبٌ بأكمله ليموت جوعًا وخوفًا تحت القصف، بينما تستمر الحياة في عواصم العالم كأن شيئًا لم يكن، فإن هذا الصمت يصبح صرخة مدوية تُدين الجميع. لماذا لا تتحرك الشعوب؟ لماذا تكتفي الحكومات ببياناتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع؟ أين هي الإنسانية التي يتغنى بها العالم في خطاباته؟

إن الكيان الصهيوني يعتمد على هذا الصمت، إنه يعلم أن العالم قد اعتاد على مشاهد الدمار، وأن الصور المروعة لن تثير أكثر من موجة تعاطف عابرة سرعان ما تتلاشى. هذا الصمت هو الوقود الذي يغذي استمرار الجريمة، فبدونه لما استطاع هذا الكيان أن يواصل عدوانه ومذابحه بهذه الجرأة.

شعب غزة، أطفاله وشيوخه، نساؤه ورجاله، مقاومته الباسلة، وسط هذا الصمت المخزي، يعلم جيدًا ويؤمن جيدًا أن هناك أصواتًا لم تخن غزة. هناك شبابٌ في الجامعات الغربية يتظاهرون، وكتابٌ ومثقفون يرفضون التطبيع مع الظلم، وشعوبٌ في أنحاء العالم تنتفض ضد هذا الصمت القاتل. هذه الأصوات، لا زالت تذكّرنا بأن الإنسانية لم تمت بعد، وأن هناك من لا يزال يؤمن بأن العدالة واجبٌ يتطلب الفعل.

غزة تنزف، والعالم يشاهد، وكل يومٍ يمر دون تحركٍ حقيقي هو يومٌ يُضاف إلى وصمة العار التي ستظل ملتصقة بضمير هذا العالم، إنها تستصرخ العالم، تطالبه بموقفٍ شجاع يوقف هذه الجريمة المستمرة، فهل سيكون للعالم ضمير يوقظه من سباته، أم سيظل مشاركًا في الجريمة بصمته المخزي؟

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة