النظام الطبقي القادم.. بين قلاع ذكية وقلاع حجرية

 مؤيد الزعبي

تخيَّل معي عزيز القارئ عالمًا لا تُقاس فيه الثروة بالذهب ولا المال؛ بل بالبيانات، عالمٌ تُبنى فيه القلاع على الخوارزميات، ويُترك الباقون على هامش اقتصادٍ لا يرحم، مُجرَّدين من مفاتيح المستقبل، وأنا هنا لا أتحدث معك عن سيناريو خيال علمي بعيد المنال؛ بل هو احتمال يلوح في الأفق مع كل حركة أو نقرة أو حتى تسجيل إعجاب نتركه في الفضاء الرقمي، وهنا أتساءل معك هل نحن على أعتاب نظام طبقي جديد، ولكن هذه المرة مُشَفَّرًا بالخوارزميات، ومُحصّنًا بجدران البيانات؟

إذا كانت البيانات هي النفط الجديد؛ فالمعرفة هي المصفاة التي تُحوّله إلى وقود، ففي هذا النظام الطبقي الرقمي الجديد، لن يكون مجرد الوصول إلى المعلومات كافيًا بل ستكون القدرة على فهم هذه المعلومات، وتفسيرها، وتطبيقها لحل المشكلات، وخلق قيمة جديدة هي ما يُميز الأفراد والشركات والدول، والتخوف من أن تملك جهات معينة النفط والمصفاة وتحرم منه جهات ودول وأفراد، ففي ظل هيمنة رأس المال على مسارات التطور التقني، تتعمق الفوارق الطبقية ومع هذا السيناريو فإن مسألة بروز نظام طبقي جديد بات على الأبواب وقادم لا محال.

في عصرنا الحالي أصبحت البيانات ليست مجرد معلومات خام، بل هي مادة أولية تُشكل أساس الذكاء الاصطناعي، والتعلم الآلي، والتحليلات التنبؤية، والدول أو الشركات التي تمتلك كميات هائلة من البيانات، وتُعرف كيف تُحللها وتستغلها، هي التي تُهيمن على الأسواق، وتُقدم خدمات مُبتكرة، وتُحدد الاتجاهات المستقبلية، والسؤال الأبرز هنا ماذا عن الدول التي لا تملك هذه المقومات لإنشاء مراكزها للبيانات فهل ستتذيل خريطة العالم الرقمي وتفقد فرصتها في المشاركة المستقبلية وبهذا تتغير خارطة وموازين القوى أو تكرسها السياسات الحالية، هذا السؤال الأصعب في هذا الطرح.

على صعيد الدول ستصبح القدرة على التحكم في البيانات ليس مجرد ميزة تنافسية، بل هو قوة سياسية واقتصادية هائلة، والحكومات التي تُدرك قيمة بيانات مواطنيها، وتُحسن إدارتها وحمايتها تُعزز سيادتها وتُمكنها من اتخاذ قرارات أكثر فاعلية، وفيما يخص الأفراد الذين يمتلكون المهارات اللازمة للتعامل مع هذه البيانات، وتحليلها، وإنشاء القيمة منها، يُصبحون جزءًا لا يتجزأ من النخبة الرقمية القادمة، وهم من سيعتلون الطبقات الاجتماعية القادمة.

قد أتفق مع من يعتبر الذكاء الاصطناعي أحد المفاتيح المحورية في إعادة توزيع المكاسب الاقتصادية، لكن هناك نقطة مهمة: فالشركات التي تمتلك الذكاء الاصطناعي اليوم، هي على الأرجح من ستحتكر مكاسبه غدًا ولن تسمح في أن تشارك مكاسبها الاقتصادية مع أحد، وبذلك ستتوسع التفاوت الطبقي يومًا بعد يومًا وتطورًا بعد تطور، والدول التي تستثمر اليوم في عالم المستقبل سيكون لها حصتها منه أما الدول التي لا تملك حتى مقومات استخدام هذه التقنية اليوم كيف سيكون حالها في المستقبل، ولك أن تتخيل أن نحو ثلث سكان العالم (حوالي 2.6 مليار شخص) ما زالوا بلا أي اتصال إنترنت اليوم، فكيف سيكون حالهم وحال دولهم ومجتمعاتهم في المستقبل، وهم اليوم لا يستطيعون استخدام الذكاء الاصطناعي فكيف سيكون حالهم في عالم المستقبل والذكاء الاصطناعي حجر الأساس للاقتصاد والتعلم والصحة والعدالة.

إن شبح "التهميش الرقمي" يبرُز بشدة؛ فبينما تُزهر "القلاع الذكية" في مراكز المدن والشركات الكبرى، وقد يجد الملايين أنفسهم على أطراف الاقتصاد؛ إذ هم اليوم يفتقرون إلى المهارات الرقمية الأساسية، ولا يملكون القدرة على الوصول إلى الأدوات والتكنولوجية، ونتيجة لهذا ستصبح التكنولوجيا أداة لإعادة إنتاج علاقات الهيمنة الاجتماعية والطبقية؛ والحياد المزعوم للتقنية سيخفي وراءه منظومة من الخوارزميات والأنظمة التي تعيد تكريس التفاوتات القائمة بشكل جديد وبجدران طبقية أكثر تعقيدًا.

إنَّ التحذير من نظام طبقي رقمي ليس دعوة للاستسلام؛ بل هو دعوة للعمل فالمستقبل ليس حتميًا طالما الفرصة سانحة، ولذلك على الجميع التفكير في التعليم (تعليم البرمجة، وعلوم البيانات، والتفكير النقدي، والأخلاقيات الرقمية) كمفتاح للاستثمار المستقبلي وكإجراء لا بد منه للتخفيف من حدة هذا الانقسام، وأيضًا لا يجب النظر للبيئة التحتية الرقمية ومراكز البيانات على أنها ترف تكنولوجي بقدر ما هي أصل مستقبلي يستند عليه لضمان وصول جميع الأفراد لتكنولوجيا المستقبل، وأيضًا لوصولهم لخدماتهم الأساسية من تعليم وصحة ومعيشة فجميعها ستكون جودتها مرتبطة بالذكاء الاصطناعي والحوسبة الرقمية.

وأخيرًا.. إنَّ عدم تكافؤ النفاذ إلى التكنولوجيا يساهم في ترسيخ طبقية جديدة ستكون أشد وطأً ومن الصعب معها وجود أي تشاركية ولا في أي مجال من مجالات الحياة، ولا في أي مجال من مجالات الحياة. وقبل أن يسكن البعض في قلاعٍ ذكية، وآخرون في قلاعٍ حجرية يجب أن نسيطر على الفجوة قبل أن تتسع وتصبح الحلول الممكنة حتى بوجود ذكاء اصطناعي خارق أمرًا خارج عن السيطرة.

الأكثر قراءة