ريم الحامدية
بينما أتهيأُ لعبور عتبةٍ جديدةٍ من عُمري تِحمِلُ في طيَّاتها نُضجًا مُختلفًا، باغتتني أسئلة حقيقية أعمق من الذات والحياة، مفادها من أنا؟! وما الجدوى؟! ولماذا؟!
طرحتُ على نفسي حُزمة من الأسئلة الحقيقية أو قُل الوجودية! شرَّعتُ النافذة التي تُطل على شُرفة الأمل الذي أتمسَّكُ بتلابيبه، والحُلم الذي يراودني في أوقات الصحو قبل النوم، جعلتُ نسمات الأفكار تتسلل لي دونما إدراك لترتطم بفكري، شعرتُ بثقلٍ أكبر، كيف يُمكنني أن أرى العالم كما كان.. بريئًا، واضح المعالم، وبسيطًا. كل فكرة داعبت مُخيلتي كانت تحمل على أكتافها آلاف الأسئلة، مرَّت بي في وهلةٍ لحظةُ سكونٍ استدعت ضجيجًا داخليًا من البحث والتأمل.. ضجيجاً لم يسمعه أحد سوى قلبي وعقلي.
أدركتُ حينها ما كان يعنيه الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي، حين قال: "الوعي الزائد مرض.. مرض حقيقي"، لكن الحقيقة أن الوعي وميض يُضيء مرةً وينطفئ مرات، لكنه يكشف الزوايا التي لم تكن مرئية، نرى الناس كما هُم، لا كما نودُّهم أن يكونوا. نكتشف هشاشة العالم، ونلمح ضعف القوة، وربما النقص في كل كمال مُصطَنع زائفٍ. كم هو مُتعب أن تعرف، وكأنَّ العقل حين يستفيق لا يخلد إلى سباتٍ مُجدَّدًا، وكأنَّ اليقظة تترك أثرًا لا يُمحى من الروح. لم يخبرنا أحد أن النُضج يَسرق راحة البال، وأنَّ الحكمة لا تأتي إلّا ومعها شيء من الوحدة وربما التِيه!
ومع كل ذلك لا ندمَ؛ ففي هذا العُمق شيء يُشبه النور، شذرات من النقاء رغم ثقله، حتى وإن كان مُؤلمًا، شيء يُبقيك حيًّا، وإنْ كانت الحياة من حولنا تزداد تعقيدًا. أدركنا أن البساطة نعمة؛ فقدناها حين بدأنا نفهم أكثر مما ينبغي، لم يكن ذلك ضعفًا.. لا أبدًا ولن يكون.
أن تمضي يومك دون أن تتعمَّق في المعنى، أن تضحك دون أن تُحلِّل مصدر الضحك، وحتى أن تحزن دون أن تسأل لماذا هذا الحزن.. هذا ما أُسمِّيه "رفاهية الجهل الجميل"، الذي لم نكن نعرف قيمته.
تمضي الأيام، وأُدركُ أن هذه "اللعنة" ليست سوى هدية مُتنكِّرَة تُلاحقنا كلما زادت أعمارنا وتقدَّمت، رغم أنها هدية تحمل بداخلها الكثير من الألم، إلّا أنها تخرجني من الجمع الغفير الذي يُحب التقليد ولا يؤمن بالاختلاف والتميُّز والتفرُّد، تضعني هذه الهدية فوق مسرح الحقيقة، وتُعيد تشكيل جميع قناعاتي ومفاهيمي وربما طقوسي وشعائر حياتي، تُعيدها في علاقتي بربي، ووطني، وذاتي، ونجاحي، وعائلتي ومحيطي، والحب أيضا له من هذه الهدية نصيب، ويبدأ هنا الوعي الحقيقي الذي كلما اتسع زاد معه ثقل القلب، لكنه على الأرجح يُصبح الأكثر صدقًا.
زملائي أبناء هذا القرن كبرنا في عالم مُشبع بالصوت والصورة، لكنه فقير بالمعنى، نصحو كل يوم على أخبار جديدة، معلومات لا تنتهي، ورسائل لا تتوقف، لكن الكثير منها لا يُلامسنا، ولا يُضيف لأرواحنا أي جديد، كل شيء يجري بسرعةٍ، ومع ذلك نحن الأكثر ضياعًا من أي وقت مضى.
وبينما أتكئ على الكرسي المُطِل على شرفة الأحلام، أتأملُ فيمن حولي؛ فأكتشفُ أنَّ الكثير منهم يركض ولا يعرف إلى أين، وأن الضحكات مجرد غطاء، وأن الإنجازات لا تعني الشعور بالرضا، وأن العلاقات مهما بدت مُتماسكة، قد تكون خالية من الروح والحُب. وهذا الإدراك لا يُعلن، ولا يُحتفل به، لكن يعيش فينا، في صمتنا حين يتحدث الجميع، في دموعنا التي لا سبب واضحًا لها، وفي تردُّدِنا أمام ما كان- ذات يوم- بسيطًُا.
هُنا تتجلى لعنة الوعي في أصدق صورها، أن نعرف أكثر فنشعر أكثر ونتألم أكثر، هذا الألم هو ما يجعلنا نحيا بصورتنا البشرية الحقيقية، ويصقل فينا شيئًا لا يُرى، لكنه حقيقيٌ، فربما لم تكن اللعنة لعنة حقيقية؛ بل اختبار للروح.. فهل سنُواصل السير رغم وضوح العتمة؟
وأخيرًا.. ما أودُ قوله إننا ربما لا نملك ترف العودة إلى البساطة، ولا القدرة على إغلاق نوافذ الوعي التي شرعناها ونحن ننتظر تسرُّب الأمل إلى دواخلنا، لكننا نملك أشياءً أثمن؛ وهي أن نعيش بصدقٍ، وأن نمنح أنفسنا حق الاختيار والحيرة في الوقت نفسه؛ فالحياة ليست أبيض ولا أسود، وعلينا أن نُجيب على أسئلتنا بصدقٍ ورفقٍ، وأن نسير في الحياة بوعيٍ يُهذبنا لا يقتلنا؛ فهناك لحظات صفاء وسط الزحام، وربما في نهاية المطاف تكون هذه هي البركة الخفية في تلك "اللعنة"!