سعيد بن سالم الكلباني **
في عصرٍ أصبحت فيه البيانات الضخمة (Big Data) العمود الفقري لصناعة القرار، لم تعد السياسات تُبنى على التوقعات أو التعميمات، وإنما على تحليل دقيق للبيانات المتوفرة والمتكاملة من مختلف الجهات.
البيانات الحكومية اليوم تشمل أنواعًا متعددة: بيانات وصفية Descriptive (عدد المؤسسات والموظفين ونوع النشاط)، وبيانات سلوكية Behavioral (نمط الأجور والدفع)، وبيانات مالية Financial (الإيرادات والمصروفات)، وبيانات جغرافية Location-Based (مثل توزع الأنشطة في المحافظات)، وكلها متاحة للحكومة من خلال منظومة إلكترونية مترابطة تشمل وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، ووزارة العمل، وجهاز الضرائب، والمركز الوطني للإحصاء والمعلومات، ومركز البيانات الوطني (NDC).
الطرق الحديثة لاستخدام هذه البيانات تتعدى الجمع والاحتفاظ بها أو استخراج معلومات هزيلة منها بالجمع والطرح، إذ يمكن عبر أدوات الذكاء الاصطناعي ونماذج المحاكاة الاقتصادية وتعلم الآلة أن نرسم سيناريوهات متعددة لأي قرار قبل إصداره، ونقيس أثره على المدى القصير والطويل، ونحدد الشرائح المتضررة والمستفيدة بدقة. هذا ما يسمى بـ"الحوكمة الذكية"، أي تحويل البيانات إلى قرارات تراعي الواقع، وتبني المستقبل، وتقلل من الأثر السلبي غير المقصود. وقد أكدت دراسة العمري (2024) أن وجود فريق إستراتيجية بيانات ضخمة يضم مدير مشروع البيانات، وعالم البيانات، وخبير تحليل البيانات، وخبير العمليات، ومعماري النظم، يسهم في تحويل كتل البيانات إلى قرارات إدارية دقيقة وفعالة تتماشى مع حجم المنظمة وطبيعة هيكلها التنظيمي.
وكما ذكرنا في مقالنا السابق، جاء قرار وزارة العمل، بإلزام المؤسسات التجارية التي مرّ على تأسيسها أكثر من عام بتوظيف مواطن عُماني واحد خلال 30 يومًا، كمثال صارخ على غياب هذه الحوكمة الذكية. ورغم أن الهدف الظاهري نبيل، وهو تعزيز التعمين وتوفير فرص عمل، إلا أن غياب التحليل العميق لما تملكه الدولة من بيانات أدّى إلى إصدار قرار بعيد عن واقع السوق، خصوصًا المؤسسات الصغيرة والمتناهية الصغر.
وبحسب بيانات هيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، فإن أكثر من 90% من المؤسسات المسجلة في سلطنة عُمان تقع ضمن هذه الفئة. وتشير إفصاحات جهاز الضرائب إلى أن عددًا كبيرًا من هذه المؤسسات لا يحقق أرباحًا شهرية تتجاوز 500 ريال عُماني؛ بل إن بعضها يُدار من قبل صاحب العمل فقط دون أي موظفين. ووفقًا لبيانات نظام حماية الأجور المشترك بين وزارة العمل والبنك المركزي العُماني، فإن آلاف الأنشطة تُدار بفرد واحد، ولا تظهر عليها مؤشرات نمو تسمح بالتوسع.
ومع كل هذا، جاء القرار بصيغة إلزامية عامة تطلب من كل مؤسسة أن توظف عُمانيًا واحدًا خلال شهر، دون النظر إلى حجم المؤسسة أو نشاطها أو ربحيتها أو قدرتها التشغيلية، وعلى كل من يريد التظلم التوجه إلى لجنة التظلمات. في المقابل، كان يمكن للوزارة أن تستخدم البيانات الضخمة المتوفرة لديها بشكل أكثر كفاءة. وكان يمكن تصنيف المؤسسات إلى ثلاث شرائح: القادرة على التوظيف فورًا، والمؤهلة للتوظيف بدعم جزئي، وغير المؤهلة مؤقتًا. وكان يمكن بناء نماذج استهداف ذكية، مع إدخال معايير كالإيراد السنوي، وعدد الأنشطة النشطة في السجل التجاري، وسجلات الضرائب، وحالة التوظيف في حماية الأجور؛ بل كان يمكن إشراك مركز البيانات الوطني ليُصدر تقارير محاكاة اقتصادية دقيقة تُقدَّم لصانعي القرار قبل أي إجراء.
ما حدث لم يكن غيابًا في البيانات، بل غيابًا في الإرادة المؤسسية لاستخدام هذه البيانات بشكل علمي. فبينما تتجه دول العالم إلى تحويل وزاراتها إلى وحدات تفكير مدعومة بالذكاء الاصطناعي والتحليل الاستباقي، لا تزال بعض قراراتنا تُبنى على المراسلات والاجتماعات لا على مؤشرات الأداء والتوقعات. وقد أظهرت دراسة نوف بن جمعة (2023) أن اعتماد إدارة نظم البيانات الضخمة يُعد من أقوى أدوات دعم التميز المؤسسي والتخطيط الاستراتيجي والتشغيلي المستند إلى الوقائع.
حين تكون البيانات موجودة، لكن القرار لا يعكسها، فنحن أمام فجوة ليست في التقنية؛ بل في الوعي الإداري الحديث بالاستفادة من البيانات الضخمة التي تعد كنزًا يُباع بالملايين لم يُقدَّر ثمنه بعد. وما لم يُعاد النظر في طريقة صنع القرارات نفسها، فإن أي نية طيبة قد تتحول إلى عبء اقتصادي لا يُحتمل.
اليوم.. نحتاجُ إلى قرارات لا تتحدث فقط عن الأهداف؛ بل تُجيد قراءة التفاصيل.. نحتاج إلى حكومة ذكية، لا فقط حكومة إلكترونية، والفارق بينهما هو ما يُميِّز قرارًا وطنيًا واعيًا من قرارات بلا حوكمة ذكية، تُدير كل هذه البيانات، بإنتاج قرارات شاملة ومُستدامة لكل فروع مصالح الوطن والمواطن.
** باحث دكتوراة في فلسفة الإدارة والقيادة