د. ذياب بن سالم العبري
في زحمة الحياة وتسارع التحوّلات من حولنا، تبقى رحلة التعلّم هي النبض الأصدق الذي يحفظ للإنسان وعيه، ويقوده إلى السمو في فكره وسلوكه، والتعليم- كما أراه- ليس مرحلة زمنية محصورة ولا شهادة تُعلّق على الجدار؛ بل هو امتداد طبيعي للعقل الباحث، والقلب المتأمل، والروح التي لا ترضى بالتوقّف.
لقد أدركتُ من خلال تجربتي الشخصية، واحتكاكي بالعديد من النماذج القيادية والإنسانية، أنَّ النجاح الحقيقي في أي مجال لا يتحقّق إلّا عندما يستقرّ في وجدان الإنسان إيمانٌ بأنَّ العلم لا يتوقّف، وبأنَّ كل مرحلة من الحياة تحمل في طيّاتها دروسًا وفرصًا جديدة للتعلّم. فالقائد الذي يسعى إلى التأثير، لا بد أن يكون أوَّل من ينفتح على المعرفة، وآخر من يكتفي بما لديه.
اليوم، لم يعد التعلّم حكرًا على المقاعد الدراسية، ولا مُقتصرًا على أسلوبٍ تقليديٍ بعينه. لقد منحتنا التقنية أبوابًا واسعة للدخول إلى عوالم معرفية غنية: الكتب السمعية ترافقنا في التنقّل، والحوارات النوعية عبر "البودكاست" تُنير أذهاننا، والمنتديات الإلكترونية تفتح لنا المجال لتبادل الخبرات، وتوسيع المدارك. هذه الوسائل، وغيرها كثير، شكّلت بيئة معرفية متجددة، تُسهم في تعميق الإدراك العلمي والوعي الثقافي لدى الأفراد، وتدعم ديمومة التعلم كمسار لا ينضب.
كم من موظف طوّر ذاته خارج أوقات عمله، فتقدّم في مسيرته؟ وكم من أب أو أم قرأوا وتعلّموا كيف يربّون أبناءهم على وعيٍ واحتواء؟ وكم من شابٍ انضم إلى منصات رقمية أو حلقات حوار إلكترونية، فبنى فكره، ووسّع رؤيته، وغيّر من طريقة تعاطيه مع الحياة؟
القيادة الحقيقية لا تُقاس بمنصب؛ بل بمقدار ما يضيفه القائد إلى نفسه ومن حوله. والقائد الذي لا يتعلّم، لا يستطيع أن يُلهم، ولا أن يتقدّم، ولا أن يسمو. إن أجمل ما في القيادة، ذلك الوعي الذي يُولّد التواضع، وتلك الحكمة التي لا تُبنى إلا على تجارب ومعارف متراكمة، تُكتسب في مسيرة لا تنتهي.
ومن هنا.. أجدُ أن رسالتنا اليوم، في منازلنا ومؤسساتنا ومجتمعاتنا، هي في إعادة تشكيل العلاقة مع العلم، وأن نغرس في نفوسنا ونفوس أبنائنا أن العلم لا يُؤخذ من جهة واحدة، ولا بأسلوب واحد، ولا في زمن واحد؛ بل هو ممارسة حياتية يومية، نحيا بها ونرتقي بها.
إنَّ من أراد أن يقود فعليه أن يتعلّم، ومن أراد أن يسمو فعليه أن يستمر، فإن لم نكن نحن، قادةً ومسؤولين وآباء وأبناء، من يجعل من التعلّم سلوكًا يوميًا ونهجًا دائمًا.. فمن؟ ومتى؟ وكيف نُحدِث الفرق؟