علي بن مسعود المعشني
الصورة السطحية للوطن العربي اليوم صورة مؤلمة جدًا في ظاهرها، وأشد هذه المظاهر إيلامًا هو سقوط دمشق، ومحاولات العدو الإجهاز عليها سريعًا، عبر تفتيت جميع مظاهر قوتها وصمودها طيلة 5 عقود خلت، كرمزٍ عروبيٍ شامخٍ ومقاومٍ للعدو ومؤامراته لتفتيت المنطقة برمتها، في استدعاء تاريخي واضح وجلي لـ"سايكس- بيكو" جديد.
خطورة "سايكس- بيكو" الثانية، اليوم، تكمُن في توقيتها وأدواتها؛ حيث المُخرج أمريكي والأدوات صهيونية ومُتصهْيِنة. وثاني خطورة لها، تكمُن في حلولها بعد "طوفان الأقصى"، وما أدراك ما "طوفان الأقصى"؛ حيث استشعر العدو الصهيوني وعاش -ولأول مرة- خطر زواله الحقيقي؛ حيث رأى الصهاينة ولأول مرة قصف عمق الكيان وبلا رأفة من 4 جغرافيات عربية طيلة عام ونيف.
في الصورة السطحية كذلك، غزة دُمِّرت من قبل العدو، واستُشهِد فيها الآلاف وجُرح أضعافهم، واُغتيل عدد من قادة حماس والفصائل الأخرى بغزة، كما استشهد الآلاف كذلك من كوادرهم، وينطبق الأمر كذلك على جنوب لبنان وحزب الله.
يتساءل القاعدون والمتصهينون والساسة الوقوعيون (عكس الواقعيين) من عرب زماننا، عن ماذا جنت المقاومة ومحورها بعد كل هذا الدمار والخراب والقتل والتشريد؟ والجواب هو أن المقاومة ومنذ احتلال فلسطين، تعلم بأن الكيان الصهيوني سرطان غربي تم زرعه بمكر ودهاء في جسد الأمة، وتعلم كذلك بأن هذا السرطان خبيث وسريع الانتشار وليس حميدًا يمكن استئصاله مع الحفاظ على سلامة الجسد، وتعلم بأن فلسطين هي مجرد الهدف الأول لاحتلال الأمة وإذعانها وتسليم مصيرها وقيادتها لاحقًا إلى قادة العدو، دون إطلاق رصاصة واحدة، وذلك عبر سرطانات التطبيع والسلام والإبراهيمية وخلافه.
وفي المقابل، يرى النظام الرسمي -في غالبيته- أن الكيان الصهيوني قضاء وقدر لا يُرد، ويجب التسليم والقبول به والاستسلام والخضوع التام له، ولكي يواري البعض سوء فهمه وسوء عمله لا حقًا، نسب الصهاينة الى اليهود العرب من بني قُريضة وبني النظير وبني قينُقاع، وأن بعثهم اليوم ووجودهم بفلسطين كمنقذين لا محتلين!
إذن.. الصراع هنا والمقاومة من باب الوعي التاريخي لا من باب القوة والضعف، فحين ترى المقاومة أن الكيان سرطان محتل يجب مقاومته واجتثاثه من جسد الأمة عبر فلسطين، يرى الوقوعيون بأن الصراع من باب القضاء والقدر والقوة العارية التي لا طاقة لهم بها؛ حيث لم يُكلِّف هؤلاء الوقوعيين أنفسهم بممارسة حتى أضعف الايمان لمقاومة هذا المُنكر وهو القلب؛ بل تطوعوا كأدوات وظيفية لتمريره وكرسوا جميع قواهم لتبريره وسكبه في عقول الأجيال جيلًا بعد جيل.
حين يُقال إن حبل الكذب قصير، فإن منسوب التبرير قصير وعقيم كذلك، فحين أتى وعد الطوفان في السابع من أكتوبر 2023، سقطت جميع سرديات العدو وسقطت معها جميع سرديات المُطبِّعين كذلك، وحين سقطت دمشق سقطت معها ما تبقى من منظومة الأمن القومي العربي، وتكشَّفت جميع أقطار العرب من المحيط الى الخليج، ومارس الصهيوني وحليفه وراعيه الأمريكي كل السادية والبذاءة والاحتقار تجاه العرب جميعهم وبلا استثناء، وأولهم دُعاة التطبيع والوقوعيَّة، فتبيَّن للقاصي والداني بأن المقاومة كانت السِتر والواقي والمُحصِّن للأمة من هكذا صلف وعربدة واستباحة، وأن الهدف ليس فلسطين فحسب؛ بل كافة الأقطار العربية بالقوة النارية والحصارات أو التطبيع. وجميعنا يعلم بتجارب التطبيع ووقعها السيء في كل من مصر والأردن، ويعلم كل عاقل بعلم القياس بأن مصير كل قُطر عربي مُطبِّع سيكون كتلك النماذج السيئة إن لم يكن أسوأ.
لهذا نقول وبكل ثقة اليوم، إن التجربة النضالية التراكمية والوعي التراكمي في الوطن العربي اليوم وبعد "طوفان الأقصى" ليس كما قبله، وأن المواجهات المُقبلة مع العدو ورعاته ستكون أشد قوةً وقسوةً وضراوةً من "طوفان الأقصى"، وأن حاجة النظام الرسمي العربي اليوم للمقاومة أكثر بكثير من الهرولة نحو التطبيع؛ فالمعادلة السياسية والمنطقية تقول إن الاكراه على التطبيع لا يمكن أن يتم أو يُمرر في ظل وجود مقاومة على الأرض، كما لا يُمكن للعدو الصهيوني أو الأمريكي الضغط على أي نظام رسمي عربي، في ظل وجود مقاومة على الأرض، ومن أي جغرافية عربية كانت. المقاومة اليوم ومن واقع "طوفان الأقصى" بالتحديد لم تعد ضرورة لتحرير فلسطين؛ بل حمايةً للأقطار العربية من الانبطاح والتهاوي التدريجي تحت أقدام العدو وتقديم التنازلات وبلا ثمن.
أعود إلى القول والتأكيد وبكل ثقة وقناعة، أن المشهد الأخير لم يكتمل بعد، ولن يكتمل بما يتماشى مع مُخططات العدو والصورة السطحية للمشهد؛ فما زالت هناك مواقف وكلمات لم تنبر ولم تُقل بعد، وهي التي ستحسم المشهد الأخير وترسُم واقعه لصالح الأُمَّة التي أراد لها الله أن تكون خير أُمَّة أُخرجت للناس. وكل ما علينا وما هو مطلوب منا اليوم هو زيارات للتاريخ للعِظة، والتعلُّق بوعد الله ومشيئته.
قبل اللقاء.. يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَاۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ" (الأعراف: 179).
وبالشكر تدوم النعم.