الصيرة.. تحكي!

 

 

 

يوسف عوض العازمي

@alzmi1969

 

 

 

"لا يأتي المؤرخ إلى الوثائق والشهادات بكيفية اعتباطية، فمهمته الأساسية تكمن في إيجاد توازن معقد بين ما تقوله المصادر، وما يقتضيه فهم الأحداث والظواهر من تفسير وتأويل". عبدالرحيم الحسناوي.

 

*****

التفكر في التاريخ وأحداثه الجسام والولوج إلى عمق أحداثه ليس بالشيء السهل أو اليسير، والتمعن بحيثياته ودقائقه ومسافاته الزمنية يحتاج عدة بحوث تاريخية متكاملة، كأن الباحث بوقته وجهده وبحثه دائمًا يصل الى طريق خاطئ او اشبه بغير صحيح اعتقد يصل الى جزء او حقيقة نسبية غير ثابتة بطبيعة الحال كونها علوم إنسانية.

أحيانا التبصُّر بالمصادر والمراجع باختلاف خواصها وأنواعها لا يقنع الباحث المتأهب للحقيقة، فتبدأ رحلة شاقة من التحليلات التاريخية والمقارنات الموضوعية وأيضا ليتها تصل للهدف المرجو وفهم الحدث التاريخي من كل زواياه وبصورة أشمل وأعم.

وفي فنون الأدب العالمي والعربي الكثير من الروايات ذات الصبغة التاريخية، والتي تعتمد على حدث تاريخي تتفاعل معه متخيلات الروائي مع حقائق الفترة التاريخية المزمع الحديث عنها روائيا، وهناك روايات مضمونها تاريخي وتدخل بمناطق تاريخية دقيقة وصعبة، يتماهى بها الخيال مع الوقائع ببوتقة متعددة الصفات، وتجد الصنعة الروائية وبتمكن الصانع- الروائي- وقد تحولت إلى أشبه بكتاب تاريخي عليه القيمة، أتذكر ان رواية  حدائق النور كانت من ضمن متطلبات إحدى مقررات التاريخ القديم بإحدى الجامعات ذلك لوجاهة الطرح وجدية المضمون (1).

 

قرأتُ رواية فيها من عبق التاريخ وبها من متصورات الزمن وتقلباته، رواية صدرت عن دار لبان للنشر في مسقط بعنوان "الصيرة تحكي"، لمؤلفها د. سعيد السيابي، وهي رواية تؤرخ بذكاء وحنكة لفترة تاريخية صعبة مرت على المنطقة عامة وعلى الساحل العماني وبالذات قرية قريات بيت القصيد في الرواية الماتعة، في الرواية ذات الصور التاريخية المتعددة. الرواية من القطع الصغير بعدد 195 صفحة، والإهداء مُلفت؛ حيث تم الإهداء لخال الكاتب صالح بن سالم السيابي، وواضح تأثير الخال على الكاتب وأيضا لأنه (أي الخال) أحب قريات.. فأحبه أبناؤها.

في الصفحة 5 يبرز عنوان عريض "مائة عام بحبر الخلود". وكان الروائي ينثر اللقطات ذات المعنى بين فينة وأخرى ويدخل القارئ في خضم تلك الأيام. ومما كتب: "أظهر أهل قريات دروسا كبيرة في الصبر، والشجاعة، والنخوة، والمعروف، الذي تشاركوا فيه على مدى سنوات مع المحتلين البرتغاليين؛ فالكثير من المؤشرات قدموها عن حسن النوايا وعدم المكابرة أمام القوة الغاشمة".

وفي مقال يتحدث عن الرواية في جريدة الوطن العُمانية ذكرت عن كاتب الرواية السيابي وبالحرف: موجّها دعوة لقراءة جديدة لتاريخ عُمان الحديث (2).

قرأت الرواية مرتين واستشعرت متتاليات تاريخية لم تألُ جهدًا في تحريك الذهن واستثارته لقراءة تاريخ المنطقة من جديد، خاصة إبان الوجود البرتغالي على ساحل جنوب شبه الجزيرة، ومشاهدات الغزاة والعنف وقمع المحتل لأراضٍ ليست له، وشعب لا صلة تربطه به، ومبادئ لا توجد إلا في الكتب، وقيم أخلاقية غابت وذهبت بعيدًا.

لفتني بالرواية تماسكها الرابط لجهات الفهم المفترضة، وتوزيع الافكار المتناغم مع الحبكة السردية، بحيث يعيش القارئ مع طالب الدكتوراه ومعاناته منذ وصولة لشبونة حتى لقائه مع مشرفة البحث البروفسورة ليزا.

ومن أهم القيم التي رصدها الكاتب هي أن الشعب العماني له تاريخ عريق وليس أقل من غيره، وأن المآسي والنوازل الكبرى تزيد من تعاضد الناس، وتقربهم وتفرز نوعيات مختلفة قد لا نراها في أيام السلم والرخاء، تجد ظهور وبروز الثقة العالية بالنفس رغم الفارق في التسليح والقوة والخبرة القتالية؛ بل والقمع والاضطهاد الذي وصل لحد التمثيل بالأجساد (جذع الانوف وقطع الاذن)؛ مما زاد الناس همة لمقاومة الغزاة، رغم الفارق كما اسلفت، وبالنهاية لا يصح إلا الصحيح، وكما قال أبو القاسم الشابي: "إذا الشعب يومًا أراد الحياة // فلا بد أن يستجيب القدر".

وكانت هناك تجارب وأعمال أدبية خاصة في فن الرواية مزجت التاريخ بالخيال، وأدخلت حوادث التاريخ المعنية بالرواية نفسها بأساليب الصنعة الروائية، وكثير ممن استخدموا هذه الصنعة الحساسة قد نجحوا أيما نجاح في تسجيل التاريخ عبر عمل أدبي روائي، أدخل فيها لعبة الأدب بملعب التاريخ وحيثياته ومُتناقضاته، وقد تم إدخال أكثر من حدث بأعمال روائية؛ حيث تم عرض الحدث وفق وجهة نظر الراوي (انتبه كتبت لفظ الراوي وليس الروائي وشتان ما بينهما) والمريب في الأمر (3)، أن الحدث قد ينقل روائيًا بفكرة مختلفة عن النقل التاريخي، كتبدل في بعض العناصر الهامة لذات الحدث، وهنا نكن امام احتمالين: أما أن القضية هي رواية وللروائي أن يكتب ما يتخيله، ولا غبار في الخيال والتأليف، أم إن الروائي يناقض رواية معينة للحدث وينقها بصيغة مختلفة إيمانًا منه بصحتها، او رغبة منه لتغيير تأريخ الحدث لغاية في نفس يعقوب.

 

**************

  1. رواية تاريخية من تأليف: أمين معلوف
  2. جريدة الوطن العُمانية، نشر في 13 أكتوبر 2020م.
  3. مثلا روايات نجيب محفوظ، وأورهان باموق، ورضوى عاشور وعبدالرحمن منيف إلى حد ما وغير ذلك.

الأكثر قراءة