تألق سعودي في مهرجان المسرح العربي

 

 

 

عبد الله العطية **

 

قراءة في العرض المسرحي "ذاكرة صفراء"

 

على مسرح كُلية الدراسات المصرفية والمالية بسلطنة عُمان، بدأ العرض المسرحي "ذاكرة صفراء" الذي دارت أحداثه حول شخصية البطل "أنسي"، وهو يُخاطب مجسَّمًا بصيغة الأنثى، يُحدثه عن هوايته المتمثلة في الرسم، إضافة إلى دخول عامل النظافة "عادل"، الذي يُحاول إقناعه بالارتباط بفتاةٍ تساعده على تحمل ثقل الحياة، فيما تعود الشخصية بواسطة تقنية الاسترجاع إلى قصة اللقاء الأول مع "حنين"، وما بين الحين والآخر يُردد عادل وصايا وحكم أمه في بعض المواقف، يُقابلها أنسي بالامتعاض والازدراء، وتتصاعد الأحداث بعد معرفته -بواسطة الهاتف- أن والده في الطريق إليه، والهاتف من الحيل في الحبكة الدرامية التي تغير من مسار الحدث،  ويتجلى عنصر المُفاجأة حينما يكتشف أنَّ الذي وراء الباب هي جارته الفتاة "أمل" وليس والده، تقتحم منزله وتخبره بأنها ستمكث عنده بعض الوقت إلى أن يعود أخوها "يوسف"، وأنها لم تجد مكانًا أفضل من هذا المكان لانتظاره، فيتورط أنسي بوجود الفتاة، ويُعبر عن خوفه الشديد من اللحظات التي يعيشها في ظل وجودها، وبعد محاولة الإقناع يستمر الحوار، فيحدثها عن صديقه حسام الذي كشف له عن طبيعته في نسيان الأشياء، وهنا يتضح أول خيط من خيوط الفكرة التي تُعالجها المسرحية، وحينما تكتشف الفتاة بأن "أنسي" خائف أيضًا من قدوم والده في ظل وجودها، تستأذن لمغادرة المكان، ويصل الحدث إلى الأزمة عندما يدخل والده، مما يظهر على أنسي الخوف الشديد منه، فيقوم بالتعبير عن اشتياقه له، والترحيب به، في المقابل ينهال الوالد بسيل جارف من العتاب على ابنه، "ألم تسأل عني، ألم تشتق إليَّ" ، ويحاول أنسي إقناعه بأنَّه ما زال يردد وصاياه في كل ساعة من حياته اليومية تلك الوصايا التي تدور حول عدم الدخول في علاقة "فلا أحد يستحق أن نهبه الحب، ولا أحد يستحق مساحة شاغرة في قلوبنا"، كما أنه لن يجد أحدًا يحبه، ولا أحدًا يهتم به سواه في هذا العالم المليء بالخيانة والسوء، سيما أنه شخصٌ بلا ملامح، شوهته الألغام، أثناء نزوحه من قريته إبان الحرب.

المسرحية قائمة على افتراضات، وأسئلة تجول داخل شخصية البطل "أنسي"، ماذا لو؟، ماذا لو أتى أبي؟، ماذا لو اكتشف أني مرتبط بفتاة؟، وهنا استطاع المخرج أن يوظف تقنية الاسترجاع في صورتها المثلى من أجل إبراز شعور الشخصية، والفكرة ألحت على المخرج تلك التقنية التي أضفت عليها طابعًا دراميًّا يتمثل في حالة الاضطراب العميقة.

يحاول أنسي الهروب من الحياة القاسية التي عاشها في صباه، وعن الخيبات التي تعرض لها في حياته، والصدمات التي جعلته يختار العزلة، تلك العزلة الناتجة عن الرهاب الاجتماعي، مما جعله يدخل في نفق مظلم يصعب الخروج منه، يتذكر الأحداث التي مرَّ بها طوال حياته، يحدث نفسه في مونولوج مأساوي عن خيانة الطرف الآخر، ويردد وصايا أبيه "ابتعد عن النساء، الحب وهم"، مما يفتح عليه بعض التساؤلات المثقلة بالأوجاع "لم جعلتني أخشى الوقوع في الحب؟، لم كل هذه الكراهية؟"؛ لم زرعت فيَّ حقول الكراهية تجاه كل شيء جميلٍ في هذه الحياة، سيما كراهية الأم، الأم التي كانت مصدر الحب الأول في حياته، المعلم الأول، ومصدر الأمان، وبتلك الكراهية يُفقد الأمان والحب، والمعرفة.

ويتحول الحدث عندما تفضح الحقيبة -التي تركها الأب- "أنسي"، وتكشف عن توهمه، في مشهد مأساوي يصل إلى ذروته في الحدث، يحتدم فيه الصراع الذي يشكل مونولوج داخليًّا في صراع بين الخير والشر عبر شخصيتي "عادل" الذي يقنعه بأن كل شيء حقيقي، فيما يحدث التضاد من الفتاة "أمل" بأن كل شيء يراه هو مجرد وهم لا يمت إلى الحقيقة بصلة، وتحاول إقناعه (إقناع نفسه) عن الأسباب التي جعلته في هذه الحالة المأساوي المرضية المتمثلة في تشوه الوجه، وفقدان أمه نتيجة اللغم الذي انفجر فيهما، وتسبب في هوسه، إضافة إلى قساوة الأب، وتوبيخ الأم، وألاعيب الصديق، وظروف الحرب، وتكشف له أيضًا عن حقائق شكلتها الحياة القاسية، وحقيقة موت أبيه منذ زمن طويل، ولم يكونوا حاضرين سوى في ذاكرته، ومنه تبدأ نقطة التحول، "من أين جئت لي يا أمل؟"، تحاول أمل فلسفة الأشياء "ما الأثر؟" في محاولتها لانتشال أنسي من الوحل الذي علقت فيه قدماه، تقدم الفتاة نصائحها في مرحلة من مراحل هبوط الأحداث إلى الحل، مما يجعل "عادل" -وهو مصدر الوهم- يغادر مخيلة أنسي، وحواسه، وفي ذلك رسالة مفادها أن هذه الفتاة التي يخاف منها هي وحدها القادرة على انتشاله مما فيه من أزمات خلفتها الحياة القاسية.

ولكن الصراع الداخلي يعود إلى "أنسي" باعتبار أن ما حدث كله ليس حقيقيًّا مما يعزز من فكرة الأوهام في ذاكرته، وفي معالجته لهذا الموضوع يترك للمتلقي أسئلة في النهاية المفتوحة، حيث تنتهي المسرحية بعبارة أنسي "أنا اليوم أريد إجازة"، ما معنى الإجازة التي يريدها أنسي؟ إجازة من الأعباء، التفكير، التوهم، رسم اللوحات السوداوية، القلق، الهوس، وحديث النفس المضطربة.

 

المكان: شقة البطل "أنسي"، وهي مظلمة، وفي ذلك دلالة على الحياة اليومية التي يعيشها من إهمال في نفسه نتيجة القلق الذي يصاحبه في كل وقت.

 

الزمان: يتضح حينما يفصح البطل عن معرفته بحارس العمارة، أو عامل النظافة "عادل" منذ 10 سنوات، وبه تتحدد الفترة الزمنية التي عاشها في تلك الشقة وحيدًا لا يرافقه سوى الألم، والأوهام. ولا يلتقي بحارس العمارة إلا حين يزوره كل شهر لتسليمه الجرائد.

 

الديكور: عبارة عن لوحات فنية تعكس نفسية وحالة شخصية أنسي المسكونة بأوجاع الماضي، وثقل الحياة، لوحات لا تحمل إلا الصورة الأنثوية التي يحلم بها، كما تكشف اللوحات عما غرسه والده من أفكار تجاه المرأة في عقله، فما بين الحذر الشديد، والرغبة تتجسد صورة الأنثى في مخيلته.

 

الشخصية الرئيسية "أنسي"، شخصية مضطربة نتيجة أحداث مأساوية مر بها، فترسبت في داخله، جعلته في صراع دائم مع ذاته، والوقائع والأحداث تعكس تلك الصراعات الداخلية.

 

الشخصيات الثانوية هي شخصيات وهمية ولكل منها دلالة خاصة في نفس شخصية البطل، وتبرز وصايا والده، وحكم أمه، والحلم بالمرأة.

 

الفتاة "أمل" تحمل من اسمها المعنى نفسه، ذلك الأمل الذي يحتاجه البطل "أنسي"؛ حاجته لوجود شريكة الحياة، مما يعكس أهمية دور المرأة في حياة الرجل.

 

عامل النظافة "عادل" ليست سوى شخصية وهمية اتخذت من مخيلة شخصية البطل "أنسي" مكانًا للعبث فيه، تشحنه بالأوهام، والأفكار السوداوية، وتعزز من حالة الذهان، والهوس، وبها تمثلت الفكرة المرضية للشخصية من التوهم، ومخاطبة النفس، وقد نجحت شخصية عادل في إضفاء بعض الكوميديا التي تخفف من عبء المأساة والتأزم.

 

الأب هنا يمثل شخصية نرجسية بامتياز، في أنانيته، وشعوره بالأهمية الكبرى في حياة ابنه، الأمر الذي يجعله أن يغلق جميع أبواب الحياة في وجهه، وهذه الأهمية المبالغ فيها إحدى المبررات التي شكلت شخصية البطل، ولذلك وضعها المخرج منذ بداية العرض في مكان مرتفع للدلالة على علو الشخصية، وشعورها بالعظمة والغطرسة، وحب النفس، والتعالي.

 

والشخصيات النمطية أيضًا هي شخصيات وهمية تدور في ذهن شخصية البطل، "حنين" التي يحلم بها، و"حسام" صديقه الذي تسبب له بالكثير من المتاعب، مما عادت بالأثر السيء عليه.

 

أما على مستوى الإضاءة برع المخرج في توظيفها بالشكل المطلوب الذي يخدم العمل الدرامي، وبالتالي لم يشعر المتلقي بعبثيتها، أو استخدامها بصورة غير مبررة، بل شكلت لوحة فنية في مخاطبتها للبصر.

 

والموسيقى جاءت مواكبة لأحداث المسرحية، وقد أسهمت في التأثير الدرامي لا سيما المواقف التراجيدية، كما أنها نجحت في شد انتباه المتلقي للحدث في كافة تحولاته.

 

تظل مسرحية "ذاكرة صفراء" أحد الأعمال الرائدة التي عرضتها فرقة النورس السعودية في مهرجان المسرح العربي بسلطنة عُمان، ولو كانت في المسار الثاني إلا أنها برهنت على قوة حضور المسرح السعودي في المشهد، لما تحمله من مقومات على مستوى الأداء، والديكور، والمؤثرات الصوتية، والبصرية إضافة إلى النص المسرحي القوي الذي سلط الأضواء على معاناة كبيرة من المعاناة الشائعة في هذا العصر، مما جعل المتلقي يتفاعل معه، ويتعاطف مع شخصية البطل، وهذا لم يكتمل إلا برؤية المخرج حسن العلي، وبراعته في استثمار مكونات العرض بما يخدم فكرة الكاتب عباس الحايك، وإخراجها بأفضل صورة.

** كاتب سعودي

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة