وداعًا يا صديقي.. وداعًا أبا هيثم

 

علي بن سالم كفيتان

تلقيتُ خبرًا صادمًا صباح الأحد، بفقدان صديق عزيز عرفته عن قرب، وعملنا لسنوات معًا، وظل تواصلنا مع كل انقطاع قائماً؛ لأنَّ أبا هيثم شخصية نادرة بكل المقاييس، أخلاق جمة وارتكاز على إرث اجتماعي أصيل، جُبل على انتقاء المواقف الصحيحة في أصعب الظروف، والاصطفاف إلى جانب الحق، والحفاظ على اللحمة، والعمل بتفانٍ وشغف مع كل المحيطين به منذ 30 عامًا ونيف.

تزاملنا في أروقة جامعة السلطان قابوس، وعرفته كإنسان مُحب للجميع، على استعداد لتقديم التضحيات، مهما كان عظمها، قذفته الحياة واختبرت صبره على بلائها، فوجدته صلبًا جلدًا لا يلين. يمنحك أبو هيثم الابتسامة في أحلك الظروف، ويرى دائمًا النور في نهاية النفق، لديه حضور لافت بين أهله؛ حيث كان شخصية وازنة، مستندًا إلى إرث أسرته العريقة (بيت أرعيب) ومواقف خالدة لعمه الشيخ محاد بن أرعيب العمري- عليه رحمة الله- قدم الكثير لولايته مرباط، من خلال لجانها وفرق عملها، رغم مرضه العضال. رحمك الله يا صديقي.

لم يكن مرضه وفشل كليتيه عن العمل عائقًا؛ بل كان حافزًا لكي يُلهم الآخرين الثبات والصبر. وما زلت أذكر شجاعة وإقدام أخيه بخيت- حفظه الله- في أواخر القرن الماضي، عندما تبرع له بإحدى كليتيه، رغم أنَّ عمليات نقل الكلى في تلك الفترة كانت في بداياتها ونسبة فشلها عالية، لكن توفيق الله منح أبا الهيثم فرصة جديدة من العطاء والتأثير الإيجابي، لكل من عرف المهندس سعيد بن مسلم أرعيب العمري ذلك الشاب الذي ذرع الصحاري والقفار في مستهل حياته العملية في وزارة موارد المياه (سابقًا)، ومشاركته في مشروع حصر الموارد المائية في عُمان، مع ثلة من زملاء دكة جامعة السلطان قابوس، فكان العمل عظيمًا، والنتيجة مبهرة. ما زلت أتذكر عندما كنت ألقاه وهو يسوق سيارة الميدان الممتلئة بالأجهزة والمعدات الفنية، مبتسمًا وهو في طريقه لتخوم الربع الخالي ومفازات سلسلة جبال ظفار، في الوقت الذي كنت أنا أحمل همًا آخر وهو العمل البيئي، نلتقي بعد كل جولة نخوض فيها مجاهيل عُمان، نتحدث في أحد المقاهي في صلالة، ولا نحس بالوقت؛ فجُل الحديث عميق، والشغف لا يُفارق ما نقوم به من قول أو عمل. كان الجهاز البارز تحت جلد إحدى يديه يذكره بأيام غسيل الكلى، وكنت أسأله: لماذا لم يتم إزالته بعد نقل الكلية؟ فكان يجيبني قد يحتاجونه يومًا يا صديقي.

قادتنا الأقدار للانضمام معًا في العمل، بعد دمج وزارة موارد المياه مع قطاع البيئة، وأقنعته- بإلحاحٍ شديدٍ- بالانتقال معي في صون الطبيعية؛ فوافق، وبدأنا رحلة جديدة معًا، استمرت أكثر من 20 عامًا، شغل خلالها مواقع مُهمة وحساسة في حماية الحياة الفطرية، وساهم في بناء أعمال الرقابة في ظفار، وعمل بإخلاص قلّما تجده في غيره، لبناء فريق عمل متماسك، يذود عن مفردات حماية الحياة الفطرية في ظفار. التف حوله الجميع بشخصيته الجامعة وحضوره اللافت ورأيه السديد. استخدم أبو هيثم إرثه الأسري العريق لإيجاد حلول وتوافقات لأصعب القضايا التي يكون طرفها المجتمع؛ فرسم صورة مُشرقة وأسلوب عمل نادر، استطاع من خلاله كسب المجتمعات المحلية واصطفافها إلى جانب صون الطبيعة. كان أبو هيثم توافقيًا حصيفًا لا يعلو صوته مطلقًا، وأعرف أنه غاضبٌ، عندما أرى ابتسامة غامضة على محياه في وسط حوار صاخب في قضية ما، يدور الجدل فيها عن حماية بيئة ومجابهة المعتدين على مفردات الحياة الفطرية.

خاض أبو هيثم صراعًا آخر غير المرض، وهو سعيه لإدماج أصحاب الإعاقة السمعية في التعليم العام، ومن ثم التعليم العالي في ظفار، حتى انتصر وتخرّج هيثم مع أول دفعة من المعاقين سمعيًا قبل شهرين من جامعة ظفار، وأصبح أيقونة للنجاح، فكل شاشات العرض في ولاية صلالة على الشوارع والطرقات العامة، عرضت ذلك الشاب المُفعم بالحياة وهو يروي قصته بإشارات وحركات تُجبرك على الوقوف والتحية لمن كان خلف هذا الإنجاز. توقفت الكُلية وعاد أبو هيثم لرحلة الغسيل المرهقة منذ عامين، وكان آخر تواصل بيننا قبل شهر عبر صوتيةٍ، باركت له فيها تخرج هيثم، وسألته عن حاله، فرَّد عليَّ شاكرًا، وطمأنني بأنَّ برنامجه العلاجي في تركيا يسير على خير ما يُرام. وفي صباح يوم الأحد الشتوي الكئيب، تلقيتُ خبر وفاته.. رحمك الله يا صديقي ورفيق دربي.. لن أنساك ما حييت أبو هيثم.

الأكثر قراءة