عمير العشيت
أتطرقُ في هذا الموضوع المُهم من منظور العرض والطلب في سوق العمل والآثار الديمغرافية المترتبة عليه، ذلك أن هذا الملف مازال الشغل الشاغل لدى الجميع ومتصدرا سلم أولويات الحكومة والرأي العام؛ وهو متجدد باستمرار نتيجة تدفق آلاف من المخرجات التعليمية التراكمية سنوياً على وزارة العمل ومنصات البرنامج الوطني للتشغيل، مطالبة بالاستحقاق الوطني المتعلق بالتوظيف والمستمد من ديباجية النظام الأساسي للدولة، والذي نص في الفصل الثالث من المادة (15) على أن "العمل حق وشرف، ولكل مواطن الحق في ممارسة العمل الذي يختاره في حدود القانون".
أما الأعداد المسجلة وغير المسجلة فضخمة، وقائمة الانتظار مطولة والعمر يمضي ولا ينتظر صاحبه، ونزيف الأموال التي تصرف على الطلبة من الباحثين عن عمل لا يتوقف، ويكاد لا يخلو منزل من وجود أكثر من باحث عن عمل يتمنى أي وظيفة تكفل له العيش الكريم حتى لو كان على حساب تخصصاته العلمية. ويبدو أن ملف الباحثين عن عمل بات لُغزًا مُحيرًا دون غيره من الملفات الوطنية، كلغز مثلث برمودا الذي حير العلماء في اختفاء السفن والطائرات بشكل مفاجئ في أعماق البحار والمحيطات. والغريب أن مفردات هذه الظاهرة تتزايد سنة بعد سنة نتيجة المخرجات العلمية السنوية وثقل كاهل ولي الأمر من التزامات ومصروفات، وبالتالي فإن بقاء هذا الملف المُعمِّر على حاله، سيؤثر- لا محالة- على التوازن في التركيبة الديمغرافية للسكان في السنوات القادمة، نتيجة عزوف الشباب عن الزواج، بسبب عدم توفر دخل شهري لأسرهم وستنجُم عنه آثار اقتصادية على التنمية الوطنية التي تفقد سنويًا مليارات الريالات المحولة خارج البلاد بواسطة العمالة الوافدة.
لقد تفضل حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- حفظه الله ورعاه- بالتأكيد على ملف تشغيل الباحثين عن عمل بأنه ذو أولوية وطنية، وانه يأتي على سلم أولويات الحكومة، إلى جانب وجود البرنامج الوطني للتشغيل الذي يعد من اهم البرامج الوطنية في هذا الشأن، إلّا أن التحديات والصعوبات ما زالت تمثل حائط صد قويًا لهذا الملف، على الرغم من الجهود الكبيرة التي تُبذل من وزارة العمل لاحتوائه، وإصدار العديد من القوانين واللوائح حول ولكن دون جدوى.
الأرقام ما زالت مرتفعة والوظائف شحيحة، رغم البيانات التي تُنشر بين الفينة والأخرى حول توظيف الباحثين، إلّا أنَّ الأغلب يتم قبولهم في القطاعات العسكرية والأمنية.
كما إن الوظائف المحظورة من قبل وزارة العمل والمخصصة للعمالة الوطنية، لم تفلت من قبضة العمالة الوافدة التي تمارس أنشطتها بمنتهى الحرية؛ كأنشطة مكاتب إدخال البيانات وغيرها والتي بدأت تمارسها في المنازل ولا تحتاج إلى تصريحات من الجهات المعنية، ولا الى استئجار مكاتب، ولا تطالهم لجان التفتيش، بعد أن فتحت بعض المؤسسات الخدمية تطبيقاتها على الهواء مباشرة بحجة تسهيل الإجراءات، وهذا الأمر يحتاج إلى إعادة النظر لدى الجهات المعنية، نظرًا لتأثر شريحة كبيرة من المواطنين العاملين بهذا الوضع، والبعض منهم أغلق نشاطه وانضم الى قافلة الباحثين عن عمل والمسرحين.. وهذا يعني أن إقبال الشباب على الأعمال الحرة لا يعود عليهم بمنفعة حقيقية لكسب الرزق ما دامت الضوابط الرادعة مفقودة.
الجميع يعلم أن العالم يتجه إلى تكتلات وتحالفات اقتصادية واسعة وبعيدة كل البعد عن نطاق مسار حسابات الدولة الواحدة ونسفت الكثير من البرامج الوطنية كتوظيف مواطنيها، وبدأت المصالح بين الدول ومؤسساتها الاقتصادية مشتركة ومرتبطة بمنظومة العرض والطلب بحيث لا يُمكن الاستغناء عنها، وهذه حقيقة فرضت نفسها على الجميع، وبالتالي نلاحظ أغلب الدول فتحت كافة أبوابها للشركات العالمية والعمل فيها؛ سواء بالشراكة أو الاستثمار وفي المقابل سمحت لها بقبول شروطها المتعلقة بمصالحها الاستراتيجية كتوظيف العمالة الوافدة لاعتبارات الأجر والمؤهلات الفنية والخبرة وهذا واقع يتعايش معه الجميع.. إلّا أن ملف الباحثين عن عمل وآثاره الديمغرافية يظل الهاجس الأكبر، ولا بُد من إيجاد حلول حقيقية تلامس الواقع، وعلى رأسها توفير مصدر دخل شهري مؤقت للباحثين عن عمل، ليكون عونًا لهم على العيش الكريم ومنه يتحقق التوازن الديمغرافي لاحقًا، ونأمل أن تدخل هذه المنفعة في نطاق صندوق الحماية الاجتماعية، شأنها شأن المنافع الاجتماعية التي حسَّنت أوضاع كثير من الأُسر.