د. إسماعيل بن صالح الأغبري
لكل أمة من الأمم ولكل شعب من الشعوب ولكل دولة من الدول سمات ومميزات تميزها عن غيرها عن طريق ما يُعرف بالهُوية، تسعى إلى تعزيزها وتنميتها، وتمنع المساس بها أو التعدي عليها عبر سن النُظم والقوانين الحافظة لها أو عن طريق وضع خطط واستراتيجيات تضمن تعميقها في نفوس الناشئة من الشبيبة.
الصين رغم تنامي قوتها وصيرورتها ثاني عملاق اقتصادي، إلا أنها تشتد في المحافظة على مواريثها الثقافية ووجهها الثقافي وسور الصين العظيم تعده من مفاخرها رغم امتلاكها ما يغني عنه من القوة والمنعة المتمثلة في الجوانب العسكرية والتقنية، وفرنسا قوة صناعية مؤثرة، ولها في الأمم المتحدة حق النقض المؤثر في القرارات الدولية إلا أنها من الدول الرافضة بشدة التأثير على موروثها الحضاري القديم، ومتحف اللوفر مخزون لها ثقافي وسيادي.
مصر وآثارها الفرعونية والقبطية والإسلامية بمراحلها الأيوبية والمملوكية تمثل هُويتها وجزءًا من سيادتها ووجهًا مُشرقًا لها، والعراق في أوج صعودها العلمي والصناعي أيام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، ورغم البعثية الحاكمة في عهده إلّا أن تراث السومريين والأكاديين والبابليين ثم العصر الإسلامي، مثَّل سيادة لبلاد ما بين النهرين، والحفاظ عليه واجب لأنه عنوان على أقدمية العراق وأسبقيتها في النشأة بين الدول والحضارات، وفارس (إيران) رغم صعودها العلمي والعسكري إلّا أنها تعمل جاهدة على الحفاظ على الهوية ولو كانت تلك الهوية تتعلق بمواريث قبل الإسلام.
عُمان لم تكن بمعزل عن تلك الحضارات لما لها من علاقات نِديَّة معها؛ فهي ذات أسبقية في النشأة على غيرها في الجزيرة العربية تمتد إلى آلاف من السنين، وعرفت أنظمة حكم سياسية متعاقبة ما يدل على أن سكانها في أغلبهم لم يكونوا رُحَّلا؛ بل أهل استقرار وتوطين وذلك أهَّلَهُم لإقامة أنظمة سياسية سابقة على غيرها.
يشكل الإسلام مصدرًا أساسيًا من مصادر الهوية العُمانية إذ صار دين الدولة والشعب بإسلامهم الطوعي دون إشهار منهم لسيف في وجه نبي الإسلام أو تعنت منهم في قبول الحق، ثم صار الإسلام وعبر أنظمة حكم سياسية متعاقبة بمثابة الوقود الذي أشعل فيهم جذوة حب الاستقلال عن غيرهم، ورفضهم التبعية لأي نظام حكم لم يكن عُمانيًا كما كان الإسلام أحد محركاتهم وحوافزهم الدافعة لهم إلى خوض غمار التحرر من قبضة المستعمرين البرتغاليين.
اللغة العربية- وهي وعاء الوحيين- مصدرٌ أصيل من مصادر الهوية العُمانية، ولا عجب في ذلك فالعُمانيون من حيث الأصول عرب أقحاح؛ بل تذكر المصادر أن المفسرين ظلوا يتحاكمون إلى لغة أهل عُمان عند تفسيرهم لكثير من آي الكتاب العزيز؛ بل كانت هناك قراءآت على لغة أهل عُمان كقوله تعالى لمريم "قد جعل ربك تحتك سريًا"، فقرأ البعض على لغة أهل عُمان "قد جعل ربش تحتش سريا"، كما فسر بعض المفسرين الخمر بالعنب في قوله تعالى بسورة يوسف "إني أراني أعصر خمرًا"، وذلك على لغة أهل عُمان، حيث إنهم يسمون العنب خمرًا، ولم تزل بعض المناطق حتى الآن تسمي الجلوس تحت شجرة العنب بالجلوس تحت الخمرة؛ ذلك أن الخمر يصنع من العنب. ولذا فالحفاظ على اللغة العربية هو محافظة على الهوية والشخصية العُمانية، ومن مظاهر حفظ أهلها لها أن تكون هي لغة التخاطب الشفوي بينهم، وأن تكون هي المتصدرة في محاضن العلم والمعرفة وفي المراسلات والمكاتبات الرسمية والخاصة وفي المؤسسات الرسمية والخاصة، وهي السائدة في الملصقات والمحلات والإعلانات فإن تراجعت عن الصدارة فذلك مساس بالهوية، وهضم لحق الخليل بن أحمد الفراهيدي العُماني صاحب أو معجم للغة العربية من أحفاده.
لا يمنع الاهتمام باللغة الأم الإفادة من غيرها ولكن المانع هو تراجعها كأنها لغة ثانية لا أولى.
اللغة الأم لم تكن عائقًا من التقدم التقني والتصدر في الصناعات؛ فكوريا الجنوبية ورغم قلة السكان المتحدثين بلغتها في الكرة الأرضية، إلّا أن الكوريين بها يتعلمون وبها يخترعون أنواعًا من التقنيات والهواتف.
والإيرانيون باعتبارهم لهم مواريثهم الثقافية وتعتبر حضارة فارس من أقدم الحضارات فإن اللغة الفارسية أساس في محاضن العلم العامة والخاصة، وقد بزوا غيرهم في ميادين الطب والصناعات العسكرية بل والنووي السلمي.
ورغم حداثة نشأة إسرائيل وضيق مساحتها الجغرافية وقلة عدد سكانها إلّا أن اللغة العبرية التي شارفت على التلاشي لولا نشأة إسرائيل صارت هي مصدر هويتهم، يغرسونها في أطفالهم كما يغرسون أقوال التلمود وأقوال أحبار بني إسرائيل، ونافست بلغتها صناعات دول عالمية؛ بل صارت أجهزة التجسس الإسرائيلية من أفضل أنواع الأجهزة، وهذا يدل على أن اللغة ليست عائقًا في التقدم إن وُجدت الإرادة والوعي الوطني.
إنَّ مجمعًا للغة العربية بات ضرورة في بلاد الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب معجم العين أول معجم في اللغة العربية له من الاختصاصات ما يمكنه من تقوية العربية كتابة ومخاطبة وتحدثا وإشرافا وتعريبا وترجمة بشرط أن لا يكون نسخة من حال المجامع العربية.
وتتجلى الهوية العُمانية في الميدان الديني من حيث الاعتدال في الفكر، والعيش مع الآخر، واحترام الاختلاف، فلا تكفير ولا تفجير، وهو منهج متأصل في الأجيال المتعاقبة، ولذا قد يهز العالم الإسلامي صراعات دينية وفتاوى تكفيرية، إلّا عُمان فإنه لم يسجل فيها على مر العصور فتاوى تكفير أو جواز تفجير حتى غدت عُمان مدرسة نموذجية في حياة دينية آمنة مطمئنة هانئة هادئة مستقرة.
الهوية العُمانية تتجلى في السياسة فلا تتدخل سلبيا في شؤون الآخرين، وهو منهج سياسي دبلوماسي عُماني متأصل ومتوارث من عاهل إلى عاهل ما يعني أنه جزء من الهوية العُمانية ثم هو التزام حرفي عُماني بما نصت عليه المواثيق الدولية.
تجنب إثارة القلاقل في الدول مع الحرص على عدم الدخول في أحلاف كيدية جزء من الهوية العُمانية، ولذا اكتسبت سلطنة عُمان الثقة الإقليمية والدولية.
وتتجلى الهوية العُمانية في الميدان الدبلوماسي من خلال السعي إلى التقريب بين الأطراف عن طريق ما يسمى بالتسهيلات (الوساطات)، وشتان بين من يتوسط لحلحلة قضايا شائكة وبين من ينخرط في صنع الإشكاليات.
الهوية العُمانية بادية في الشأن الاجتماعي تعاون وتكاتف وتلاحم ومساعدة ولا أدل على ذلك من وقوف المجتمع صفا خلال إعصار "جونو" وما تلاه من أنواء مناخية قاسية.
أعراف تحكمهم، وعادات وتقاليد بمثابة الدليل الإرشادي لهم، تميزهم عن غيرهم.
لقد بات العُماني مُرحَّبًا به في الدول التي بزورها أو يقيم بها وهو معروف بسمته وأخلاقه، مأمون في تصرفاته لذا يحظى بمعاملة تفضيلية حتى في المعابر البرية والجوية.
من الضرورة بمكان المحافظة على هذه الهوية وذلك بطرق شتى منها: غرس الهوية العُمانية في نفوس الناشئة عن طريق الأسرة، وكذلك فإن السبلة (المجالس) واصطحاب الناشئة إليها وسيلة من وسائل غرس الهوية العُمانية، وسن مزيد من التشريعات والقوانين لحفظ هذه الشخصية العُمانية من التأثر السلبي بالآخر سبيل من سبل المحافظة على هذه الهُوية، والمحافظة على المواريث الثقافية العُمانية طريق من طرق حفظ الهوية العُمانية.