نور الختام

 

سلمى بنت سيف بن حمود البطاشية

«28 جمادى الآخرة.. في ذكرى رحيل والدي رحمه الله»

رجل عاش حياته بين العطاء والإيمان، لم يكن يركض خلف الدنيا، بل كان يسير فيها بقلب مُطمئن، يسعى ليرضي ربه، كان رجلًا تُعرف هيبته من سكينته، وعظمته من تواضعه، عاش وهو يُوقن بأن الدنيا محطة عبور.

هو رجل استثنائي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يجمع بين الإيمان العميق والقوة الروحية ليبقى قويًا رغم ضعفه الجسدي. استثنائيته لم تكن في مظهره بل في جوهره، رجل عاش ليُختتم له بأفضل صورة؛ قلب مطمئن، لسان رطب بذكر الله، ووجه مشرق بالرضا.

مشهد في أواخر أيامه وهو ضعيف في جسده لكنه قوي الروح مستعد للقاء الله برضا، مشهد يعكس أسمى معاني الإيمان، حيث تتجلى معاني: الصبر، التسليم، واليقين، كان يجلس بهدوء، يردد الحوقلة، التسبيحات، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، عيناه تحملان نظرات سلام، وكأنَّ الدنيا بأكملها لم تعد تعنيه، لأنه متصل بعالم آخر أكثر رحمة وبهاء، مستعد لملاقاة ربه بكل حب ويقين، الطمأنينة والسكينة وكأنه قد أتم أعماله على الوجه الذي يرضي به الله، وأدى واجباته الدينية والدنيوية بإخلاص، يشير إلى استعداد داخلي للرحيل عن الدنيا بقلب راضٍ، متوكلًا على رحمة الله وعفوه، ومتيقنًا أن لقاء الله هو المصير الحتمي.

ومع شدة الألم الذي كان يعتصر جسده وهو ينازع أنفاسه الأخيرة كان لسانه مغمورًا بذكر الله، يردد سورة الإخلاص مرات عدة بثبات عجيب، وكأن آلام الجسد لم تعد تعنيه أمام عظم ما يترقبه من لقاء ربه، حتى استودع روحه في لحظات الوداع.

شيئًا فشيئًا صار وجهه يشع نورًا، وجلده ناعماً كالحرير، وجسده ممتلئاً كأن العافية دبت فيه، وكأن طوله قد ازداد، فيبدو جسده للرائي أطول مما كان عليه في حياته، وكأن الله قد أكرمه برفعة في الهيئة والمظهر بعد وفاته، ويبشره برحمته ويكرمه بنهاية مشرقة، يعلمنا أن الطاعة مع الله وأن السعي لرضاه في كل خطوة هما الطريق الأكيد للنجاة.

وبعد ساعات كانت أنفاسه الأخيرة تتسارع ببطء وهي تتهيأ للرحيل إلى أن جاء آخر نفس، التفت ونظر نظرة الوداع، حينها كانت عيناه تحملان في بريقهما كل ما لم يستطع لسانه أن يلفظه. عندما فارقت روحه جسده كأن الزمن توقف احترامًا لتلك السكينة التي غمرت المكان، ليترك خلفه دروسًا في كيفية اللقاء الأبدي مع الخالق.

إن لحظاته الأخيرة لم تكن مجرد نهاية بل بداية لرسالة عظيمة، تذكرنا بأن الإيمان والعمل الصالح هما أعظم ما نحمله معنا في رحلتنا إلى الله، فأيامه الأخيرة تحمل في طياتها دروسًا عميقة وعبرًا مؤثرة تلهم كل من تأملها وعايشها أو حتى من سمع عنها.

إن لحظاته الأخيرة ليست فقط لحظات وداع بل صفحات من الإلهام والدروس التي تظل تنير الطريق لمن أحبوه وعرفوه.

إنها صورة لا تُنسى، مشهد مهيب يعلمنا أن من يجعل الله في قلبه وذكره يواجه أصعب اللحظات بطمأنينة لا توصف. رؤيتي له في هذه الحالة رؤية تخترق القلوب، وهي ولا شك تركت أثرًا عظيمًا في نفسي، وستظل محفورة في ذاكرتي مُلهمة لي في الأوقات الصعبة. حسن خاتمته دليل على رضا الله عنه، ولا نُزكِّي على الله أحدًا، وهو أعظم ما يُمكن للإنسان أن يرزق في حياته وآخرته.

الخاتمة الحسنة ليست صدفة؛ بل نتيجة حتمية لحياة مفعمة بالإيمان، فتكون النتيجة بُشرى للعبد وذكرى طيبة للأحياء.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة