علي الرئيسي
يذكر جاسون ستانلي في "بروجكت سندكت" أنَّه منذ 2300 عام، على الأقل منذ جمهورية أفلاطون، عرف الفلاسفة كيف يفوز الديماجوجيون والطغاة الطامحون بالانتخابات الديمقراطية؛ فالعملية واضحة ومُباشرة، والآن فقط شاهدناها تتكشف!
في الديمقراطية، يتمتع أي شخص بحرية الترشح لمنصب، بما في ذلك الأشخاص غير المناسبين تمامًا لقيادة أو رئاسة مؤسسات الحكومة. وإحدى العلامات الواضحة على عدم الصلاحية هي الاستعداد للكذب بلا مبالاة، وتحديدًا من خلال تقديم نفسه كمدافع ضد أعداء الشعب المتخيلين، سواء الخارجيين أو الداخليين. وقد اعتبر أفلاطون الناس العاديين أنَّ عواطفهم تسيطر عليهم بسهولة، وبالتالي فهم عرضة لمثل هذه الرسائل - وهي الحجة التي تشكل الأساس الحقيقي للفلسفة السياسية الديمقراطية".
الواقع أن ترامب ليس مجرمًا فحسب، فهو أيضًا مُحتال أثبت مرارًا وتكرارًا أنه لا يعرف شيئًا تقريبًا عن السياسة، ودكتاتور طموح تعهّد بتنفيذ عمليات ترحيل جماعية وتعهد بملاحقة "أعدائه". ومع ذلك، لم يفز فقط بالهيئة الانتخابية (المجمع الانتخابي)؛ بل فاز أيضًا بالتصويت الشعبي، وهو إنجاز لم يُحققه في عام 2016 أو عام 2020.
ويبدأ التفسير بمن مكَّنوا ترامب؛ فالناس أنفسهم الذين ينددون "الووك" لقمع الخطاب العام المفتوح على ما يبدو يعتبرون انتقاد الناخبين البيض وكبار السن وسكان المناطق الريفية في الأساس محظورا، والذين ظلوا مخلصين لترامب بشكل أعمى، بغض النظر عن مدى بشاعة أو خطورة أو تقلب سلوكه. ويقول المدافعون عن ترامب إنهم لا يفهمون من هو ترامب أو التهديد الذي يشكله؛ إنهم يستجيبون لمظالم مشروعة، مثل انعدام الأمن الاقتصادي.
يرفض أنصار ترامب جميع الانتقادات الأخرى؛ فالخبراء الذين يحذرون من أنَّ خطط ترامب ستفرض تكاليف باهظة على الاقتصاد الأمريكي يفشلون في تقدير ذكائه التجاري الاستثنائي. وأولئك الذين يُسلطون الضوء على تعاملاته الشخصية لإثراء نفسه وأسرته- حيث جمع صهر ترامب جاريد كوشنر مليارات الدولارات من المملكة العربية السعودية لصندوقه الاستثماري- يُبالغون في تقدير حجم وتأثير هذه الخطوة.
مع فوز ترامب الساحق على كامالا هاريس، يُلوِّح شبح نهجه المتهور والمتعجرف في الدبلوماسية. وإذا كانت أفعاله السابقة تشكل أي مُؤشر، فقد تستعد الشركات الأمريكية قريبًا لجولة أخرى من المناورات غير المنتظمة عالية المخاطر- أو ما هو أسوأ- ضد الصين.
الواقع أنَّ الدستور الأمريكي يفوض السلطة على العلاقات الخارجية لكل من الرئيس والكونجرس؛ وهي البنية المصممة لتعديل تقدير السلطة التنفيذية بالإشراف التشريعي. ولكنَّ هذا التوازن تحول بشكل كبير في العقود الأخيرة.
الآن تتركز السياسة الخارجية بشكل ساحق في السلطة التنفيذية وتظل بلا ضوابط إلى حد كبير، وهو الاتجاه الذي يعزو إليه علماء السياسة ارتفاع التحزُّب وتراجع الخبرة في الكونجرس. ومع تفضيل كلا الحزبين لنهج متشدد تجاه الصين، فسوف يتمتع ترامب بمزيد من الحرية في مهاجمة البلاد. هذا مما سيشعل حربًا حمائية بين الدولتين وسيعقد حرية التجارة العاملية.
إنَّ أسباب الذعر واضحة، وقد يكون ترامب غير قابل للتنبؤ ومتقلب، ولكن لا شك أنَّ غرائزه السياسية وخططه المُعلنة سوف تهز أركان الأمن والنظام الاقتصادي والسياسي في أوروبا.
بالنسبة للأوروبيين وخاصة فيما يتصل بالأمن، كل الأسباب للخوف من أن "خطة السلام" التي اقترحها ترامب لأوكرانيا سوف تُجبِر ذلك البلد على تسليم جزء من أراضيه وتتركه منزوع السلاح ومستبعدًا بشكل دائم من حلف شمال الأطلسي. وقد يدخل حلف شمال الأطلسي نفسه في حالة "سُبات"، مع تقليص أمريكا لمشاركتها بشكل جذري وتسليم المسؤولية عن القيادة العسكرية وموارد الحلف للأوروبيين. وذلك ليس بالأمر السيء كليا بالنسبة للشعوب الأخرى حيث اثبت هذا الحلف عدائه وتدخله العدواني في البوسنة وليبيا.
الأوروبيون أيضًا متخوفون من فرض سلسلة من التعرفة العالية على صادراتها إلى الولايات المتحدة، وخاصة على السيارات والجبن والنبيذ ومجموعة أخرى من السلع المصنعة؛ مما سيكون له تاثير على نمو الاقتصاد الأوروبي.
لكن السيناريوهات الاقتصادية أكثر إثارة للخوف، فقد تحدث ترامب عن فرض تعريفات جمركية عالمية على الواردات تتراوح بين 10% و20%، وتعريفات جمركية بنسبة 60% على السلع القادمة من الصين. وتهدد مثل هذه السياسة بإشعال حرب تجارية عالمية، مع فرض الحكومات تدابير انتقامية ضد الولايات المتحدة. وإذا تم استبعاد الصين من السوق الأمريكية، فسوف يصبح الأوروبيون أكثر عُرضة لتأثيرات العرض الناجمة عن فائض قدرتها التصنيعية.
في الشرق الأوسط، يشعر الجميع بالقلق رغم الفرح الذي عم الأوساط المحافظة في المنطقة والتي تعتقد أن قضايا مثل حقوق الإنسان والحريات لن تكون ضمن اهتمامات إدارة ترامب. وهناك قلق أيضًا من أن خطة ترامب لتأمين السلام سوف تعني دعم الخطط التوسعية للائتلاف المتطرف لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وربما حتى طرد الفلسطينيين من غزة والضفة الغربية وإعادة توطينهم في مصر والأردن. هذا بالطبع إلى جانب الابتزاز المالي الذي سيمارسه ترامب ضد دول الخليج الغنية والضغط باتجاه الإسراع في عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني.
في عام 1971، قال جون كونالي وزير الخزانة الأمريكي، لنظرائه الأوروبيين إن الدولار "عملتنا، ولكن مشكلتكم". وعلى مدى نصف القرن التالي، تحول الاقتصاد العالمي، لكن مقولة كونالي لا تزال صحيحة؛ فرغم أن قيمة الدولار تظل محددة إلى حد كبير بالتطورات المحلية في أمريكا، فإن تقلباته ترسل دائما موجات عبر العالم. وربما يكون أحد هذه التقلبات الكبيرة حاضرة؛ حيث تبدو السياسات الاقتصادية التي وعد بها دونالد ترمب، على استعداد لتسريع وتيرة تقوية الدولار. وهذا يعني مشاكل للنمو في بقية العالم. فقوة الدولار الأمريكي سيصعب من عملية دفع الديون الدولارية للدول الناشئة والفقيرة لأن ذلك سيضعف عملاتها المحلية، ورغم انه غير واضح كيف سيسعى ترامب إلى تقوية الدولار، ولكن الأمر أصبح مقلقا عالميا.
ولكن ما الأجزاء التي قد يرغب ترامب في تنفيذها من أجندته الاقتصادية، وما الأجزاء التي قد يتمكن من تنفيذها؟
النشوة التي تسود أسواق الأسهم الأمريكية تعطينا مؤشرات على ما يتوقعه المستثمرون، فقد سجل مؤشر ستاندرد آند بورز 500، وهو مؤشر للشركات الأمريكية الكبرى، أرقاما قياسية متتالية في السادس والسابع والثامن من نوفمبر. ويرى المتعاملون أن الإدارة المقبلة سوف تعزز أرباح الشركات الأمريكية من خلال التخفيضات الضريبية وتحرير القيود التنظيمية، مع ارتفاع الاقتراض الحكومي. ومن ناحية أخرى، قد يضطر البنك المركزي الأمريكي إلى الإبقاء على أسعار الفائدة أعلى مما كان ليحدث لولا وجود ترامب في السلطة. ومن شأن هذه المعدلات المرتفعة أن تجعل الاحتفاظ بالأوراق المالية المقومة بالدولار أكثر جاذبية، وهو ما يوفر دعما للدولار.