عبدالله علي المجيني
كنَّا صغارًا في عمر الزهور لا نَفقه من أحوال الدنيا إلَّا القليل، نعومة أظفارنا تشير إلى عمق براءتنا، وسلامة طويتنا، وصفاء قلوبنا، وحرَّية مُهَجنا، فحبُّنا كان نقيًا صافيًا لا تشوبه أدنى شائبة، وإيماننا كان راسخًا لا تعيبه أدنى عائبة، كنَّا صغارًا نحترم الكبار، ونكُّن لأقوالهم كل وقار، فهم الآباء والمعلمون والقادة، وإراداتنا لتوجيهاتهم منقادة، فتعلَّمنا منهم الإيمان بالله وفهمنا معنى الولاء للسلطان وانغرست في قلوبنا الأهمية القصوى للذود عن الوطن.
تعلَّمنا في تلك المرحلة المبكرة من حياتنا أنَّ قابوس هو أبونا وقائدنا وسلطاننا، الذي يحبُّنا ويرعانا ويعمل لأجلنا، فأحببناه وعظّمناه وأَطعناه، فما مرَّ يوم بعدها إلَّا وهو يُثبت لنا بأفعاله قبل أقواله صدق ما ظنناه وأملناه، وحقيقة حبّه لنا وحبّنا إياه.
كنَّا في تلك السن المبكرة نعتقد جازمين أنَّ كل طائرة تمرُّ في أجواء قريتنا الصغيرة لا بدَّ وأن تحط رحالها في مسقط! وبسبب التأثير الإعلامي آنذاك فلم يكن يخامرنا أدنى شكّ في أنَّها ستحظى حتمًا باستقبال سلطاننا، فأصبح دأبنا التّلويح بأيدينا الصغيرة لكلّ طائرة مهما كان نوعها وكل منَّا يهتف: " سلمي على أبي قابوس"! نردّدها موقنين بأنّها ستوصل سلامنا فردًا فردًا، وأنّه حتمًا يعرفنا واحدًا واحدًا، أليس هو أبونا؟ وسلطاننا الذي يحبُّنا، ويسهر لأجلنا؟ .
وكبرنا قليلًا وكَبُر الحبُّ كثيرًا وصادف حبُّ قابوس قلوبًا عطشى وأفئدةً ظمأى فتمكَّن، وانخرطنا في الصفوف المدرسية، وانتشرت أجهزة التلفاز وأصبحت تنقل لنا كلَّ مراسم زيارات ضيوف سلطاننا، فكانت كلُّ زيارة أَنَّما هي لنا وبلادنا وسلطاننا ممَّا يوجب احتفاءنا بتلك المناسبة.
وفي طابور الصباح، بمدرسة الخليل بن أحمد الفراهيدي بودام الساحل، صباح اليوم التالي لإعلان زيارة حاكم دولة لسلطاننا، ينبري مدرس التربية الإسلامية الأستاذ علي بن صالح بن أحمد الكازروني - رحمه الله - منشّدا أبياتًا أعدَّها لمثل المناسبة العظيمة، فبعد إعلانه اسم الضيف وسماعه هتافاتنا وتصفيقنا يبدأ في ترديد أبيات شعر لا أتذكَّر منها إلَّا قوله:
"عاشت عُمان وعاش الزائرون لها
وعاش سلطاننا المغوار قابوسُ"
فيا لها من لحظات تلك التي مرَّت علينا فور سماعنا لكلمات تلامس شغاف قلوبنا وترسّخ إيماننا وحبنا وولاءنا.
ومضت الأيَّام ودارت الأيَّام وانضجت تجاربها عقولنا التي أصبحت تروّض عواطفنا، فأصبحت النظرة إلى أبينا قابوس أعمق وأبعد تأثيرا، وأصبحنا نعي ما وراء كلماته وما يرمي إليه من أفعاله وقراراته، الشيء الثابت والذي لم يتغير هو انهماكنا في التعلم منه، فقد تعلمنا الاهتمام بما علمنا آباؤنا في السبلة ومدرسونا في المدرسة وضرورة تطبيقه، فقد كان سلطاننا يكرر افتخاره بما علمه أبوه ومدرسوه ومدربوه العسكريون وتمسكه بذلك فتمسكنا بتقاليدنا مفتخرين بعاداتنا وبِسَمتنا العماني الأصيل، رأيناه العماني الأول فتسابقنا في فعل ما يفعل وقول ما يقول، تلهفنا لمعرفة آرائه وأسلوب حياته، ركّزنا على طريقة صلواته العيد والجمعة، راقبنا كيفية استقباله الضيوف وتوديعه إياهم، قلّدنا اعتداده بلباسه العماني الرسمي وغير الرسمي، فهمنا أسلوبه الجاد في العمل واستمتاعه بأوقات الترفيه والاحتفالات، أثّر فينا دون أن نشعر في جوانب لم ندركها، كان طيّب الله ثراه عسكريا فأصبح الشعب عسكريا انضباطا وهيئة وهنداما وسلوكا دونما انتساب لأي دورات أو تدريبات عسكرية، كان طيّب الله ثراه محبا للطبيعة والحياة والإنسانية فتفتقت ملكات الشعب حبا في البيئة وتلمّسا لجوانب الجمال والفنون وتراحما مع بقية الشعوب وتفهما واستيعابا لبقية الحضارات، ناهيك عن حب العلم والمعرفة وتطوير الذات والتفاني والإخلاص والاجتهاد والتواضع، والتنبه لمحاولات المرجفين والخبثاء والمتربصين المغلفة بشعارات رنانة واهية، وغير ذلك الكثير والكثير مما علمنا أبونا وسلطاننا.
وجاء الوعد الحق الذي لا مهرب منه فذقنا غصة الفقد وتجرعنا مرارة الفراق، وآلمتنا لوعة المصاب، فذرفت عيوننا الدموع ورددت ألسنتنا وقلوبنا الأدعية، بيد أننا سرعان ما استوعبنا أنه فارقنا جسدا وبقي معنا روحا، فاستمر استحضارنا وجوده بيننا تذكرا لكلماته وتوجيهاته وأسلوب حياته وتنفيذا لتوصياته وتعليماته، وها هي الأيام تمر والمناسبات توقد فينا الحنين وتلهب في أرواحنا ذكريات وذكريات نترجمها أدعية من القلب بأن يتغمد الله أبانا قابوس بواسع رحمته ويدخله فسيح جناته، ويوفق سلطاننا هيثم بن طارق المعظم ويطيل عمره ويكلل مساعيه بالنجاح. فكل عام وبلادنا سلطنة عمان سلطانا وشعباً بكل خيروأمن وأمان وتقدم وازدهار.