المقاومة.. فكرة

 

سعيدة بنت أحمد البرعمية

 

رحل السنوار رحيلًا فريدًا، لم يكن نائمًا في فراشه ولا مقيمًا لاجتماع في الأنفاق أو في إحدى الدول لنُصرة المُقاومة؛ بل مات مقاتلًا مشتبكًا بلباس الحرب وعدته البسيطة، عاش فلسطينيًا بسيطًا يؤمن بفكرة استحقاقه لحقه المسلوب، وقد كلّفه إيمانه بذلك رحلة شاقّة في السجون الإسرائيلية، وانتهى به الأمر إلى قائد يسعى العدو لاغتياله ثم مقاتل عنيد، لا أعتقد أنَّ هناك قارئًا لقصائد محمود درويش مرَّ عليه مشهد اغتيال السنوار دون أن يتذكر هذا المقطع من قصيدة "مديح الظلّ العالي".

سقطتْ ذراعك فالتقطها

واضرب عدوك لا مفر

وسقطتُ قربك فالتقطني

واضرب عدوك بي .. فأنت الآن

حرّ

حرّ

وحرّ

لا يعلم الإعلام الإسرائيلي الغبي أنَّه من خلال بثِّه لمشهد استشهاد السنوار أنه يبث الفكرة ذاتها التي يُحارب من أجلها السنوار، فكرة الاستمرار في المقاومة، فكرة اختزلت في مشهد بسيط ضرورة استمرار الفكرة، فكرة "فسقطتُ قربك فالتقطني واضرب بي عدوي.. فأنت الآن حرّ".

لا أستطيع القول بأن أكتوبر الثائر على النظم الغربية الظالمة والمستبدة للدول والشعوب عاد مجددا ليعيد إلى ذاكرة العالم أحداث السابع من أكتوبر؛ فالعالم ما زال يشهد تلك الأحداث التي رسمت بوضوح تام وجه الغرب القبيح؛ بل وجردته من كامل ما يرتدي؛ ليقف عاريًا من الإنسانية والحقوق والديمقراطية، وبرزت عيناه في أعلى وجهه القذر لتظهر نظرته المُستصْغِرة للدول والشعوب، من خلال ارتفاع مؤشر الجشع والاستعماء والاستحمار الغربي للدول في الشرق الأوسط، من خلال التعامل مع الأحداث؛ لتسدل الستار عن الحامر والمستحمر؛ فالشواهد في غزة وجنوب لبنان قد اختبرت الموقف كاملًا وأظهرت نتيجة التجربة للقول والفعل تمامًا كما قال محمود درويش في القصيدة ذاتها.

سقط القناع

عربٌ أطاعوا رومهم

عربٌ وباعوا روحهم

عربٌ وضاعوا

سقط القناع

لا شك أن الطريق إلى القدس مليء بالعثرات، أولها عثرات المنطقة، عثرات يعلمها جيدًا أولئك الذين يؤمنون بأن الطريق إلى القدس ما هو إلاّ جسر من أرواح الشهداء يمتدّ النصر عبره للوصول بالزمن إلى ساعة التحرير؛ لهذا قاد السنوار معركته سنة كاملة متخذًا لنفسه فيها أول خطوط النار، لم يختبئ في الملاجئ ولم يدير المعركة من غرف التكييف كما يفعل خصمه، وهذا ما أوصله لركب قوافل الشهداء على جسر التحرير.

إنّ هدف المحتل في ملاحقة القادة واغتيالهم لم يكن وليد الأحداث الجديدة؛ بل هو منذ زمن بعيد، لأنهم يظنون أن قتلهم للقادة يكسر شوكة المقاومة ويُشتت صفوفها وتتخلى عن أهدافها؛ لكن تاريخ المقاومة بدأ بفكرة صدق فيها القول مع العمل، فكرة تُعلِّم النشء معنى الموت في سبيل الكرامة، فكرة خُلِقَت مع كلّ مولود ليكون قائدًا؛ ليجد نفسه في يومٍ ما الشيخ أحمد ياسين أو عبدالعزيز الرنتيسي أو إسماعيل هنية أو يحيى السنوار.

وأتذكر هنا مقطع من القصيدة ذاتها:

سقط السقوط وأنت تعلو

فكرةً

ويدًا

و..شامًا

يبدو أن المُحتَل لم يسأل نفسه يومًا عن عُمر المقاومة الذي هو بعمر دولتهم المزعومة، ولم يسأل نفسه لماذا لم تمُت المقاومة بموت القادة؟ هل عندما اُغتِيل الشيخ أحمد ياسين أو عبد العزيز الرنتيسي والقادة تباعًا وصولًا لإسماعيل هنية ماتت المقاومة؟ هل كُنا نحن أو المحتل نعلم أنّ السنوار سيأتي ويقود طوفان الأقصى حين اغتيل الشيخ أحمد ياسين؟!

إنّ هذا المحتل بالفعل غبيٌّ ولعين، والأغبى منه من يُعينه للمكوث طويلًا في المستنقع أمام المقاومة وفي الوحل بعد الطوفان.

لم يُحقق المجرم المهزوم نتنياهو إلى الآن أيَّ نصر يُذكر، سوى إمطار القوة- التي يمده بها الغرب- على رؤس الأبرياء، وهدم المساكن والبنى التحتية والمزيد من الدمار. وفشل حتى في استرداد الأسرى، ووصل به الأمر من الإجرام إلى قصف خيام النازحين في رفع ودير البلح وغيرها من المخيمات، ماضيًا في إبادته دون نهاية.

 

إنَّ ما يحدث الآن في شمال إسرائيل جراء الأحداث الأخيرة للتصعيد على لبنان والهزائم التي لحقت بالعمليات البرية في لبنان، وما حدث للصهاينة من قصف ونزوح يعود بالزمن إلى ساعة الاحتلال عام 1948 وإلى أحداث 2006 في لبنان، جميعها مؤشرات على أن المقاومة- سواء كانت في غزة أو لبنان- تعمل كمنظومة واحدة لا تخطئ الأهداف، لديها من الشجاعة وحبّ الفداء، ما يجعلها تقود المعركة للوصول لنهاية تستحق التضحيات؛ فما أجمل الدوائر حين تدور، وما أجمل الأحداث حين تُنصفنا، كل ما يحدث حاليًا في شمال إسرائيل خاصة في حيفا من قصف وتهجير للصهاينة يُخبر سعيد (س) -الشخصية السلبية والمتخاذلة والتي كانت بين أفواج النازحين عام 1948 في رواية غسّان كنفاني "عائد إلى حيفا"- بأن العودة باتت قريبة على يد ابنه خالد؛ بفضل استمرار الفكرة.