لنقف بحزم ضد التغريب في مهده

خالد بن سعد الشنفري

 

قد تتشكل مُمارسات تبدو بسيطة ومتفرقة ولكن إذا لم يتدارك المجتمع أمره وبتحرك ذوي الرأي والفكر والشيوخ لوقفها؛ فسرعان ما ستتسع وتنتشر انتشار النَّار في الهشيم، وتصبح بعد ذلك ظاهرة بكل ما تعنيه الكلمة ويتعود النَّاس على مُمارستها.

وواجب الجهات الرسمية بأنظمتها ولوائحها وقراراتها لا بُد منه، وللكُتَّاب أيضاً دور مهم بأقلامهم في رصد الحالات والكتابة عنها ليتحرك المجتمع والجهات الرسمية.

والمقولة التاريخية لعلماء سلف الأمة "الساكت عن الحق شيطان أخرس" التي يحسبها البعض حديثًا نبويًا شريفًا لأهميتها، تنطبق هنا تمامًا.

لقد برزت علينا بجلاء خلال موسم خريفنا الحالي فعاليات وأنشطة ومُسميات عديدة نشاز، ما أنزل الله بها من سلطان وفي عمق أنشطة موسم خريفنا وفعالياته الرئيسية التي نقدمها لزوارنا وأطفالنا وتعبر عنَّا وعن خصوصيتنا، قبل أي شيء آخر، حتى أصبح أطفالنا يرددونها كالببغاوات دون فهم حتى معناها. ولأهمية الأسماء والمسميات للبشر، قال الله تعالى في محكم كتابه "وعلم آدم الأسماء كلها"، وأسوق هنا بعض الأمثلة للتدليل على ما أقول.

والبداية من عوقد وريسوت في شرق صلالة، ولطالما كانت عوقد وريسوت ثغر ظفار إلى الخارج، وقد قال الشاعر الشيخ سالم عامر الرواس في قصيدته الرائعة التي وثق فيها رحلته من عوقد خير توثيق رغم أنَّه ضرير البصر:

من عوقد نويت غصبا ولو مابغيت

في ليلي سريت هذي حقوق السفر

الصبر جميل يهنا لكل من صبر.

وريسوت من أقدم مناطقنا التاريخية وضاربة في القدم وميناء هام قديما وحديثا. وهناك على شواطئ ريسوت وعوقد وبمقابل مينائها وفي أجمل بقعة على شواطئ بحر العرب منتجعين أصبح الجميع يعرفهما رغم حداثتهما؛ الأول أطلق عليه مسمى "اوسارا" والثاني أطلق عليه "افجينيا"، وأوسارا حسب المؤرخ اليوناني بطليموس تعد من المستوطنات القديمة جدًا التي تعود الى القرن الخامس قبل الميلاد وهي منطقة ريسوت الحالية، وبالتالي فهي قد سبقت سمهرم بالفين سنة وقد أكد على ذلك العديد من الباحثين. وأُعطي هذا الاسم اللاتيني "اوسارا" للمنتجع، وخرجت ريسوت واسمها من المعادلة تمامًا، هكذا ببساطة رغم أنَّ هذا المنتجع يقع وسطها.

وأُعطي للمنتجع الثاني بجواره مسمى "أفجينيا"، وكلمة "أفجينيا" لمن لا يعرفها هي اسم شجرة القرم أو المنجروف التي تتواجد هناك بكثرة في خوري القرم الكبير والقرم الصغير. الغريب في الأمر أن المنتجعين استثمار لشباب وشابات عمانيين، ومع ذلك اختاروا هذا التغريب في المسميات!

رغم أن جميع العائلات استمتعت أيما استمتاع بهذه المنتجعات، وأصبحت تعج بزائريها يوميًا ابتداءً من الساعة الخامسة مساءً وإلى منتصف الليل، وخففت ضغطًا كبيرًا وازدحامات على مواقع فعاليات الخريف الأخرى، إلّا أنني كنت أتمنى من شبابنا بدلًا من اختيار مسميات بهدف الشهرة أو الإعلان والترويج، أن تُسمّى مباشرة منتجع ريسوت ومنتجع القرم، ولا مانع من وضع مسمى أوسارا وأفجينيا تحتهما بخط أصغر، تقديرًا للأرض التي أقاموا عليها المشروعين، واعتزازًا وفخرًا بها.. ولعمري إنه سيكون للاسمين المحليين وقع على نفس زوارهما، فلماذا التغريب دون جدوى؟!

يا ليت اقتصر الأمر على ذلك، فلن نضطر لتخصيص مقال لذلك، ومن ريسوت سننتقل إلى عوقد جارة ريسوت، ومن حديقتها العامة بالذات، فقد تم إعطاء عقد استثمار لجزء كبير من الحديقة لشركة لإقامة ألعاب الأطفال ومتعلقاتها، وافتتح المشروع هذا الموسم، وإنه لتوجه سليم من البلدية، إلّا أن الاسم الذي عُلِّق على بوابة الحديقة وبخط كبير وعريض بالإنجليزي "كيدي تايم"، وترجمته "وقت الأطفال"، مع تغييب اسم حديقة عوقد العامة، ولن يعرف أطفالنا بعد اليوم إلّا حديقة "كيدي تايم"!

ما زالت القائمة تطول، وهذه المرة نتجه الى إتين وأول ما يقابلك فيها هناك اسم "أب تاون صلالة" وترجمتها "مرتفعات صلالة"، بينما لم تكن إتين يومًا مرتفعات صلالة، وتنحصر مرتفعات صلالة في جبالها الشامخة. ولماذا لا تسمى بمرتفعات صلالة وبالعربي مباشرة؟ لماذا نتحسس من أسمائنا وندغمها في لغة أجنبية؟!

بعد ذلك في إتين يقابلك مسمى "إتين سكوير"، لأهم الفعاليات هناك، كل هذا وقد غُيِّبت تمامًا أسامي مثل منطقة (اللوب) وعين جرزيز وواديها، ولم يعد لها ذكر في الخارطة، علمًا بأنَّ اللوب كان مهمًا جدًا لصلالة تاريخيًا، ولا يمكن تناسيه، وهو اسم محلي جميل، وكان تاجرًا مثلما يقول الأولين (اللوب تاجرًا)؛ فلقد كان اللوب ومرتفعاته مخزنًا للحطب في صلالة، يستعمله الناس في منازلهم ومناسباتهم من أفراح وأتراح للطبخ؛ حيث لا بديل له آنذاك، وأنا شخصيًا أتذكر في أواخر الستينيات من القرن الماضي، عندما كان ينفد الحطب من بيتنا، أتجه إلى سوق الحافة، وأجد هناك الجِمال واقفة صافة في منظر بديع مُحمَّلة بالحطب على ظهورها علي شكل هرم صغير، وهو مشهد لا يُنسى من الذاكرة، وذلك تحت بستاتين أشجار النارجيل، وكنتُ اشتري حمولة جمل ويوصلها لي صاحبه إلى حوش البيت، ويبرك الجمل ويفرغ الحمولة، وأنا مستمتع بذلك أيما استمتاع.

هذا بعض من أحداث تم رصدها من موسم خريف هذا العام، وقد تناسى الجميع حتى وضع لوحة للمسجد الجديد في إتين الذي افتُتح بداية الموسم، وأصبح يستقبل جموع المصلين الزائرين وصلوات الجمع.

كنَّا نحسبه سيُسمى مسجد إتين على الأقل، وهكذا فعلًا كُنّا نسميه أثناء فترة تشييده التي استغرقت وقتًا طويلًا، ولما سألت هذه المرة عن الاسم الذي أُعطي له لعدم وجود اللوحة عرفت أنه تمت تسميته "مسجد أم القرى"، ومع احترامنا للاسم إلّا أنه كان الأولى أن يُسمى مسجد اللوب أو مسجد جرزيز أو حتى إتين، إذ لا بُد من جعل إتين محورًا في خريف ظفار في كل شيء، وإذا ضاقت بنا رحاب ظفار بما وسعت ولو تقديرًا لأهمية هذه العين "جرزيز" وواديها، علينا تاريخيًا، فقد لا يعرف الكثيرون أن عين جرزيز كانت تنزل على شكل نهر صغير لا ينقطع طوال العام من العين مرورًا بالوادي وسهل جرزيز؛ ليصب في البحر عند البليد، وتعيش عليه مدينة البليد التاريخية.

لا أعرف بالضبط ما الذي دمر البليد، هل هو تسونامي أم فيضان؟ لكن أصبح لزامًا علينا أن نُعطيها حقها قبل أن تغضب وتثور من جديد فتُدمِّر إتيننا "أب وداون" (أي عاليهُ سافلهُ)!

هذا جرس إنذار وجب قرعه لتدارك هذا العدد الهائل من الأسماء الأجنبية التي بدأت تنهال علينا، رغم ثرائنا الثقافي في المُسمّيات.. نعلم أن كل مناشط وفعاليات الخريف مؤقتة ومرتبطة بالموسم، لكننا لا نعلم إلى متى سيستمر هذا التوقيت قبل أن يُنشئ لنا جيلا كاملا على هذه المسميات النشاز؛ فيسبق بذلك السيف العذل حينها، ونقول "يا ليت" حين لا ينفع الندم!

ظفار لك العليا ظفار لك الولاء

ظفار لك الزلفى لك العز مركب

سلام على الحصن المنيع وأهله، وحياهم عدنان والجد يعرب.