كشف الستار عن حَالة ظفار للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (13)

 

 

تحقيق - ناصر أبوعون

- قال الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ:[(بَيَانُ ذِكْرِ ظَفَارِ.. قَالَ الرَّحَالَةُ ابْنُ بَطُوْطَةَ: هَيَ آخِرُ الْيَمَنِ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُؤَرّخِيْنَ: ظَفَار اِسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بَيْنَ عُمَانَ وَحَضْرَمَوْتَ، وَضَبْطُ اِسْمِهَا - كَمَا ذَكَرَهُ اِبْنُ بَطُوْطَةَ- بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَكْسْرِ الرَّاءِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَسْرِ كَـ(حذَامِ) وَ(قَطَامِ)، وكُلُّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ (فَعَال) عَلَمُا لِمُؤَنَثٍ يُبْنَى عَلَى الْكَسْرِ كَذَلِكَ)].

 

"اللواتيّة نوعان: عُمانيون وأمازيغ"

قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ:-[(قَالَ الرَّحَالَةُ ابْنُ بَطُوْطَةَ: (ظَفَارِ) هَيَ آخِرُ الْيَمَنِ)]؛ والرحالة ابن بطوطة "(بتشديد الطاء أو تخفيفها) هو أبو عبد الله بن محمد بن إبراهيم المالكيّ المذهب ولقبُه [اللواتيّ] من قبيلة (لواتة) أو (لوتاه)، وهي إحدى قبائل (البربر الأمازيغ)؛ التي استقرّت بمنطقة (ولاتن) الموريتانيّة في الحوض الشرقيّ على الحدود مع جمهورية (مالي)، وتنتشر بطون (اللواتة الأمازيغ) على طول ساحل أفريقيا الشماليّ، وربّما كان أصلها في (ليبيا)، أمّا لقب [الطّنجيّ] فيرتبط بمولد ابن بطوطة بمدينة طنجة في السابع عشر من رجب عام 703هـ شباط/فبراير 1304م، وقد عُرف أيضا في بلاد الشرق باسم (شمس الدين)(01). ولا قرابة نسب البتّة أو أدنى صلة بين (اللواتيّة الأمازيغ الذين يسكنون الشمال الأفريقيّ)، و(اللواتيّة العرب العُمانيين)، فالمشابهة في اللقب لا تعني المشاركة في النسب. وبالبحث عن أصول قبيلة (اللواتيّة العُمانيّة)، وجدنا كلمة (اللواتيّ) مثبتة في معجم السلطان قابوس للأسماء العربية تحت مادة (ل و ت)؛ و(اللواتي) كلمة عربية على وزن (الفَعَالي)(02)، و(قبيلة اللواتية) جاءت إلى عُمان على ثلاث هجرات متنوّعة الأجناس؛ فأمّا الموجة الأولى فقد كانت من العرب الخُلَّص الأقحاح الذين ينتسبون إلى (سامة بن لؤي) وترحّلوا "من مكة إلى عُمان، ثم نزحوا من عُمان إلى منطقة (السند والملتان) في القرن الثالث الهجريّ التاسع الميلاديّ، وهناك تحوّلوا من المذهب السُّنيّ إلى المذهب الإسماعيليّ الشيعيّ، ثم اندمجوا مع قبيلة (السَّامرة)؛ - اعتمادًا على ما أورده المسعوديّ من أنّ أبناء حُكام الملتان أسرة المنبّه بن أسد من قبيلة سامة بن لؤيّ -، ثم عادت بعض أفخاذها إلى عُمان وانضمت إليهم بعض القبائل الهُندوسيّة التي اعتنقت الإسلام على مذهب الشيعة الإسماعيلية منذ أكثر من خمسمائة عام. أمّا الهجرة الثانية لـ(قبيلة اللواتية) إلى عُمان فقد كانت من منطقة (كتش) الهنديّة في القرن التاسع عشر، وتبعها فوجٌ آخر من منطقة حيدر أباد السند، أما الموجة الثالثة من نزوح (قبيلة اللواتيّة) إلى عُمان فقد انحدرت من منطقة (جابهار الإيرانيّة) عام 1938م"(03).

 

"حدود ظَفَار الجغرافية قديمًا"

قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: -[(قال ابْنُ بَطُوْطَةَ: (ظَفَارِ) هَيَ آخِرُ الْيَمَنِ)]؛ أي (آخر حُدود اليمن مع عُمان)، وإذا كان بعض الرحّالة من المستشرقين قد ضيّقوا حدود (ظَفَار) كصاحب كتاب البلاد السعيدة الذي جانبه الصواب في قوله:"(ظفار كلمة لها معنى محدود، فهي تُطلق على عاصمة المنطقة التي تضم (صلالة) و(الحافة) و(الحصن)، ومن عادة البدو إطلاق مثل هذه الاصطلاحات على مناطقهم كتسميتهم (الهفوف) بالأحساء و(الدوحة) بقطر"(04)؛ إلا أنّ الشيخ عيسى الطائيّ جمع سائر أقوال الرحالة والمؤرخين حول (ظَفار) في جملة واحدة؛ فأملى على ناسخه قائلا: [(وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْمُؤَرّخِيْنَ: ظَفَار اِسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بَيْنَ عُمَانَ وَحَضْرَمَوْتَ)]، وهذا يدعونا لاستعراض جلّ الأقوال؛ وقد رصدها مِن قبلُ د.خالد الوهيبيّ(05) في بحث له؛ فذكر أنّه:"قبل مجيء الإسلام بقرون عديدة أشار المؤلف المجهول صاحب كتاب(الطواف حول البحر الأريتيريّ) أنّ حدود عُمان الجنوبية تبدأ بعد (رأس الفرتك)(06)، أمّا بحر العرب فيشمل حدّ (عُمان) من الجهة الجنوبية الغربية إلا أنّ حدّها الجنوبيّ الغربيّ مع (اليمن) يحتاج إلى تعيينه تحديد حدود (إقليم الشحر)، كما جاء في المصادر العربية والتي تتفق جميعها في أنّ (إقليم الشحر) موجود بين (عُمان) و(اليمن)(07) إلا أنّ بعضها يُعطي موقعًا أكثر تحديدا له بأنه الشريط السَّاحليّ المُتاخم لليمن، والشِّحر بمعنى الشَّط: وهو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن(08)، غير أنّ الهمدانيّ يعطي تحديدا دقيقا للموقع الجغرافيّ لإقليم الشحر بأنّه يقع بعد (رأس الفرتك) و(غُبّة القمر) اللذين يقعان- حسب الخرائط دون أن يحدث تغيير كبير على اسميهما منذ ذلك الحين – بعد قرية (رخيوت) وانتهاء سلسلة (جبال ظفار) التابعة جميعها لـ(محافظة ظفار) في (سلطنة عُمان) في الوقت الحاضر"(09)، وأول إحاطة بالبحر من اليمن من ناحية (دما – مسقط)، فطنوي (طيوي)، فـ(الجمجمة)، فـ(رأس الفرتك)، فـ(أطراف جبال اليحمد/جبال ظفار)، وما سقط منها إلى ناحية (الشِّحر)، فـ(الشحر) فـ(غُبّ الغيث/ بطن من مهرة)، فـ(غُبّ القمر/ زنة قمر السماء)، فـ(غُب العقار/ بطن من مهرة)، فـ(الأخيرَج)، فـ(الأسعاء)(10)، بينما يجعل البكريّ من مدينة (الأسعاء)، والتي أشار محقق كتاب (جزيرة العرب) محمد بن علي الأكوع إلى أنها مدينة (المُكَلا) في ساحل (حضرموت)، وهي آخر نقطة حدودية بين عمان واليمن.. ثم تسير في قرى متصلة حتى تأتي (الخريمة)، وهي أكثر مدائن (حضرموت) فيها بساتين، ومياههم سيح، ثم ثلاث مراحل في رمال يسكنها قوم من مهرة، وإليهم تنتسب الإبل المهرية حتى تنتهي إلى مدينة يٌال لها الأسعاء وهي إحدى مدائن الشحر حدّ عمان وهي على ساحل البحر ثم إلى موضع يٌال له ريسوت"(11)، وتطلق بعض المصادر على (إقليم ظفار) اسم (شِحر عُمان)، ولعلّ أقدم إشارة إلى تبعيتها لِعُمان في المصادر تعود إلى النصف الأول من القرن الرابع الهجريّ/النصف الأول من القرن العاشر الميلاديّ ذكرها الاصطخريّ، وتبعه ابن حوقل المتوفَى سنة367 هـ/988م نقلا عن الاصطخريّ بـأنّ (الشحر الذي كانت تقطنه قبيلة المهرة جزء من عمان)(12)، وكذلك أشار الرامهرمزيّ إلى (إقليم ظفار) بشطِّ العرب وشجر اللبان وأكد سيادة حاكم عمان على هذا الإقليم(13)، وأشار الإدريسيّ المتوفَى سنة 560هـ /1165م إلى أنّ (ظفار) جزءٌ من عُمان(14)، والذي يعزز ما ذكرناه حول تبعية إقليم ظفار لعُمان ما أشار إليه بعض الجغرافيين العرب حول طول السواحل العمانية من الشمال إلى الجنوب فذكر الاصطخريّ: أنّ حدود أعمالها من 300 فرسخ =300X6= حوالي1800 كيلو متر طولا تقريبًا، ووافقه الإدريسيّ في هذا التحديد ذاكرٌ(وفيما يٌال إنّ حدود عثمان بلاد عمان دورا تكون تسعمائة ميل = 900X2= 1800كم طولا، وكلا المصدرين يشيران هنا على الأرجح إلى مساحة الشريط الساحليّ الممتد من جلفار إلى رأس الفرتك آخر حدود ظفار، ومن المناطق التي أشارت إليها المصادر، والتي من الممكن عدّها جزءا من هذا الإقليم هي (ريسوت)(15)، ومدينة (ظفار)(16)، و(مرباط)(17)، وجزيرة خرتان، وجزيرة مرتان (الحلانيّات)(18)، وهي نفسها جزيرة الطير التي ذكرها ابن بطوطة(19)، و(النجد)(20)، و(حاسك)(21)، و(مدركة)(22)، وجبال اللبان(جبال ظفار)(23).

 

"اسم ظَفَار له أربعة مَعَانٍ"

قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ:-[(بِفَتْحِ الظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ وَكْسْرِ الرَّاءِ، وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَسْرِ كَـ(حذَامِ) وَ(قَطَامِ)، وكُلُّ مَا كَانَ عَلَى وَزْنِ (فَعَال) عَلَمُا لِمُؤَنَثٍ يُبْنَى عَلَى الْكَسْرِ كَذَلِكَ)].

 

"ظَفَار بمعنى الفوز والانتصار"

فأمّا المعنى الأول لاسم (ظَفَار)، استنادًا إلى اللغة؛ والحِجاج باللغة ليس تامّ الدلالة، ومردود عليه. وأصحاب هذا الرأي يقولون: إنّ اسم (ظَفار) مُشتق من (الإظِّفَار) بمعنى (الفوز والغلبة). لكن هذا التفسير مردودٌ عليه، ولا علاقة البتةَ له بـ(ظَفَار عُمان) المكتوبة بـ(فتح الظاء المُعجمة)، وإنّما المقصود به (ظُفَار اليمن) التي تُكتبُ  بـ(ضمّ الظاء المعجمة)، وللدلالة على صحة كلامنا هذا أنّ اشتقاق كلمة (ظُفَار) بمعنى (الفوز والغلبة والانتصار) وَرَدَ في شعر (الأفوه الأودِيّ) ابن قبيلة (الأود) اليمنيّة، وهي بطن من (أولاد سعد العشيرة)؛ واسمه "أوّد بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج. وموطن قبيلة (أود) وسط اليمن، أو ما كان يطلق عليه قديما (سرو مذحج)، وتقع اليوم في الجنوب والجنوب الشرقي من محافظة البيضاء(24)، وفي بيت الأفوه فخارٌ واعتزازٌ بقومه (الأوديين) حين قهروا أعداءهم بالسيوف فقال فيهم:(نَحْنُ أَصْحَابُ شَبًا يَوْمَ شَبَا//بِصِفَاحِ الِبيضِ مِنْهُنَّ اِظِّفَارُ)(25).

 

"ظفار بمعنى العطر الأسود"

وأَمَّا المعنى الثاني لكلمة (ظَفَار) فيٌال إنّه اشتقاقٌ لفظيّ ومعنويّ من (نبات الظُّفْر العِطْريّ)، و(الأَظْفَارَة)؛ قِطَعةٌ صغيرة من خشبٍ مُتشرّبٌ بدهن العطر يشبه في شكله (ظُفْر أصابع الإنسان)، وليس له مفردٌ منه لفظه، وربّما أفردُوه فقالوا (أَظْفَارةٌ)، ومن اللغويين من يجمعه على (أظافير)؛ وذلك قياس لغويٌ فاسدٌ في الاشتقاق وفي تعليل الأسماء وليس بجائز(26)؛ واستطاع الباحث سالم الكثيريّ في بحثٍ له بعنوان: (ظفار.. التسمية والدلالة التاريخية)(27) تخطئة هذا الرأي مستندًا إلى ابن حجر العسقلانيّ والعديد من المراجع المعتبرة في هذا الباب، قُمنا برَقْنُها في المتن والهوامش لتَعُمَّ الفائدة؛ يقول الكثيريّ: "على الرغم من أن ظفار قد عُرِفت على مرِّ تاريخها القديم كونها مصدراً مهماً من مصادر النباتات العطرية، ورغم ما يتمتع به هذا الرأي بشيء من الوجاهة، نظراً لما عُرفت به من الاتجار في تلك الطيوب، فإنَّنا نرى أن إسقاط هذا المعنى على (ظَفَار عُمان) لا يستقيم؛ إذْ إنَّ النبات المعطَّر المقصود والذي يُسمّى بـ(نبات الظُّفر) وجمعه (أظفار)، وهو نوع من (العطر الأسود)، وسمي بذلك لأنه يشبه (ظُفْر الإنسان)(28)، ويدخل في صناعة البخور(29)، ويوجد هذا النبات في جزيرة بـ(بحر الهند) ويصدَّر منها لسائر البلدان(30)، وبهذا نجد أن اسم هذا النبات وموطنه لاينطبق على (ظَفَار عُمان)، وقد ربط البعض بين (نبات القسط)(31)، المشهور بـ(القسط الظَّفَاري)، (32) و(نبات الظُّفْر) فجعلهما شيئاً واحداً، وهو ما أوقع البعض في خطأ التسرع بربط (ظَفَارنا العُمانيّة) بالنبات المذكور؛ إذْ أكد ابن حجر العسقلاني (المتوفى سنة 858هــ)  عدم صحة هذا الربط، وأوضح أن (نبات القسط) شيءٌ، و(نبات الظُّفْر العطريُ) شيء آخر(33)، وبهذا نخلص باستبعاد فرضية ربط  معنى اسم (ظَفَار العُمانيّة) بنبات (الظُّفْر العِطْرِي الهنديّ).

 

"ظَفَار علمٌ مؤنث كسائر البلدان"

وأمّا المعنى الثالث لـ(ظَفار) فيجيءُ قياسًا على ما يُشَاعُ في تسمية البلدان بأعلامٍ مؤنثة، وهو رأي مردود عليه؛ وذلك لأنَّ اللغة وحدها ليست حُجّة في تعليل مُسميات الأشياء. وإنْ كان هذا الرأي يناصره الشيخ عيسى الطائيّ؛ وقال في ضبطه صرفًا ونحوًا بأنّ "(ظَفَارِ) بفتح الظاء المعجمة والفاء، وكسر الراء اسم مبنيٌ على الكسر" في كل أحواله الإعرابية حسْب موضعه في الجملة وسياق الكلام، وإذا كان هذا الرأي الذي جمع بين (اللغة ونحوها) يناصره أيضًا صاحب لسان العرب بقوله: "يأتي مكسورا في سائر المواضع؛ في الرفع والخفض والنصب، وكذلك كل اسم جاء على (فَعَالِ)، معدولٌ عن وزن (فَاعِلَة)، ولا يدخله الألف واللام، ولا يُجْمَع، مثل (رَقاشِ)، و(غَلاَبِ)، و(فَجَارِ)، و(فَسَاقِ)، و(قَطَامِ)(34)، وذهب الليث – وهو ابن المظفر بن نصر بن سيّار صاحب الخليل – بأن العرب جَرَّتْ كل الأسماء التي على وزن (فَعَال) في موضع (الرفع)؛ لأنها مصروفة عن وزن (فَاعِلَة)، فلمّا صُرِفَت إلى (فَعَالِ) كُسِرَت؛ وذلك لأنهم وجدوا أكثر حالات المؤنث إلى الكسر أولى كقولك: (أنتِ، عليكِ)، وكذلك (فَجَارِ)، و(فَسَاقِ)، وفي هذا المعنى بيت شعريٌ شهير يُساق كشاهدِ نحويّ، ويُقَال إنه منسوب للشاعر (لجيم بن صعب)، وله زوجة تُسمَّى (حَذامِ)، والشاهد فيه أنّ اسم  (حذامِ): اسمٌ مبنيٌّ على الكسر وقع في سياق الكلام موقع الفاعل وكان من حقِّها الرفع بالضم فيُقال (حذامُ)، ولكنها وردت في البيت الشعريّ مكسورة هكذا؛ (إذا قالت [حذامِ] فصدقوها//فإن القول ما قالت [حَذامِ]). ولأنّ [حذامِ] اسمٌ عَلَمٌ مبنيَّ دائمًا على الكسر فقد صارتْ في بيت (لجيم بن صعب) في محل رفعٍ فاعل، وهذا مذهب الحجازيين. وبناءً عليه فإنّ طائفة من النُّحَاة قالوا: "إنَّ كل شيء عُدِلَ من هذا الضرب عن وجهه يُحمَل على إعراب الأصوات والحكايات" من الزَّجْر ونحوه مجرورًا؛ كما يقول العرب في زَجْرِ البعير:(ياهٍ ياهٍ). ومنه قول النابغة الجَعْديّ:(فعرفنا هِزَّة تأخذُه/ فقرناه برضْرَاضٍ رِفل)(فَظَنَنَّا أَنَّهُ غَاِلبُهُ/ فَزَجَرْنَاهُ بـِ[يَهْيَاهٍ] وَهَلْ)(كَلِبًا مِنْ حِسِّ مَا قَدْ مَسَّه/ وأَفَانينُ فُؤادٍ محتمل)(35).وقد ورد عند العرب هذا التقليد في شْتَمُ الأنثى بهذا الوزن مسبوقاً بأداة النداء، وهو أسلوبٌ قديم عند العرب، حيث يقولون للأنثى زجرًا لها:(يا خَبَاثِ) بالبناء على الكسر.

 

"ظَفَار أرض المغَرة الحمراء"

والمعنى الرابع والأخير، لاسم (ظَفَارِ العُمانيّة)؛ ومعناه (الأرض الحمراء المُمْطِرة)، و(المغَرة/المغْرة) بفتح الغين المعجمة وسكونها: وفيه قال ابن منظور:"لون الحُمْرة وطِينٌ أحمر يُصبغُ به" ونسوق على هذا دليلا يطابق بين اللغة العربيّة وطقس ظَفار العُمانية حيث تتساقط فيها حبّات الرذاذ أيام الخريف واحدة بعد الأخرى في تتابع، يقول ابن الأعرابيّ: "(المَغْرَة) المَطْرَة (الواحدة من المطر)، وقال صاحب لسان العرب: (المغرة) بالفتح: (طينٌ أحمر)، يُصبَغ به، وفي شِياتِ الخيلِ: الأشقر الأمْغَر، الذي ليس بناصعِ الحُمرة، ولا يميل إلى الصُفْرة"، وفي الحديث: (أنَّ أَعرابيًا قَدِمَ على النبيّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: أَيُّكُمْ اِبْنُ عَبْدِ الْمُطَّلبِ؟ فَقَالُوا: هُوَ الأَمْغَرُ الْمُرْتَفِقُ؛ قال ابن الأثير في شرح الحديث: الأَحْمَرُ الْمُتَكِيءُ عَلَى مِرْفَقِهِ، مَأخُوذٌ من (الْمَغْرَةِ) وهُوَ هَذَا المَدَر الأحمر الذي يُصبغ به"(36)،والمَدَر الطين اللزج المتماسك المتكوّن من فعل تتباع الأمطار وهو جمعٌ ومفرده: مَدَرة. وبناءً على ما تقدّم فإن معنى (ظَفَار العُمانيَّة) هي (الأرض المَغَرة الحمراء) هو أصحّ الأقوال عندي وقد رجحّها الباحثون العُمانيون أنفسُهم بالأدلة المنطقيّة والواقعيّة، ومنهم الباحث الظَّفَاري سالم الكثيريّ؛ فقد أكّدَ أنّ (ظَفَارِ) بفتح الظاء المعجمة "هي (الأرض المغرة)، أي (الأرض الحمراء)، واستعان بالتدليل على هذه الحقيقة ببعض القرائن والدلائل التي تقوي وتؤيد هذا المعنى؛ منها: "أن التربة في ظفار وخاصة في المناطق الجبلية منها يغلب عليها اللون البني المائل للاحمرار"(37)؛ فضلا عن بحث جيولوجي رصين قام به عبد الله العمري(38)، حيث أكد أن (المغرة الحمراء) "من مسميات ظفار باللغة الشحرية"(39)كما يذكر الباحث علي بن محاش الشحري:(فيجير عوفر)، وتعني الأرض الحمراء(40)، وهذا يؤيد وبقوة الميل إلى ترجيح هذه الفرضية التي تفسر معنى ظَفَار بالأرض المغرة (الحمراء).

يتبع...

 

المراجع والإحالات:

(01) ابن بطوطة ورحلته، د. شاكر خصباك، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1971، ص: 21، وانظر أيضا: مهذّب رحلة ابن بطوطة، أحمد العوامريّ بك، ومحمد أحمد جاد المولى بك، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1933، ص: 1

(02) معجم السلطان قابوس لأسماء العرب، مج2، ط1، جامعة السلطان قابوس، مسقط 1411ه- 1991م، ص: 1501

(03) اللواتية في التاريخ، الفصل الرابع (هجرة الخوجة واللواتية إلى عُمان)، د. فيصل سيد طه حافظ، أستاذ التاريخ الإسلاميّ، جامعة الكويت، دار المحجة البيضاء،

(04) البلاد السعيدة، برترام توماس، ترجمة: محمد أمين عبدالله، 1981، ص: 1

(05) التقسيمات الجغرافية والإداريّة في شبه جزيرة عمان في العصر الإسلاميّ الوسيط من القرن 1هـ/القرن 7هـ إلى نهاية القرن 9هـ/القرن 15 هـ، خالد بن خلفان الوهيبي، مجلة الآداب والعلوم الاجتماعية، مج10، عدد: 1،  أبريل 2019، ص: 98، 99

(06) The Periplus, 1980: 38,104

(07) الأصطخري، 1961، 26، 27؛ ابن حوقل، 1979: 44؛ ياقوت الحموي، 1984، ج5، 327، البكريّ، 1945 – 1950، ج3: 783؛ الإدريسي، د.ت، ج1: 155؛ ياقوت، 1984، ج2: 137، 138

(08) معجم البلدان، شهاب الدين أبوعبدالله يعقوب بن عبدالله الروميّ ياقوت الحموي، ج5، دار بيروت ودار صادر، 1984، ج5، ص: 327

(09) صفة جزيرة العرب، لسان اليمن، الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمدانيّ، (ت. بعد 344هـ -955م)، تحقيق: محمد بن علي الأكوع، صنعاء، مركز الدراسات والبحوث اليمني 1983، ص: 90، 91؛ National Goraphic Atlas Of The World, 2005

(10) الهمدانيّ، المرجع السابق، 1983، ص: 82

(11) جزيرة العرب من كتاب المسالك والممالك، أبو عبيد، عبد الله بن عبد العزيز بن محمد بن أيوب البكريّ، تحقيق: عبد الله يوسف غنيم، ذات السلاسل، الكويت، ط1، 1977، ص:33، 34؛ الهمداني، 1983، هامش: 2: 282

(12) المسالك والمملك، ابن إسحق، إبراهيم بن محمد الفارسيّ الكرخيّ الإصطخري (ت، النصف الأول من القرن الرابع الهجري/ النصف الأول من القرن العاشر الميلادي)، تحقيق:  محمد جابر عبد العال الحيني!، وزارة الثقافة والإرشاد القوميّ، القاهرة 1961، ص: 27؛ صورة الأرض، أبو القاسم بن علي النصيبيّ ابن حوقل، تحقيق: كراموس، دار مكتبة الحياة، بيروت 1979، ص: 44

(13) عجائب الهند برّه وبحره وجزايره (مخطوط استنبول)، القاضي الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الدورقيّ الفارسي الرَّامَهُرْمُزي، تحقيق: إبراهيم السامرائيّ، دار عمار، بيروت ، 1883-1888، ص: 130

(14) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، أبو عبدالله محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريس العالي بأمر الله، الشريف الإدريسيّ، (ت. 560هـ - 1165م)، تحقيق: مجموعة من المحققين، ج1، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ص: 155

(15) الهمدانيّ، مرجع سابق، ص: 91، 92

(16) ياقوت الحمويّ، مرجع سابق ج4، ص: 60

(17) المرجع نفسه، ج5، ص: 97

(18) الإدريسيّ، مرجع سابق، ج1، 52؛ صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز(تاريخ المستبصر)، يوسف بن يعقوب بن محمد الدمشقيّ ابن المجاور، تحقيق: ليدن لوفرنج، 1954، ص: 271

(19) تحفة النظّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد اللواتيّ الطنجيّ، ابن بطوطة (ت. 770هـ - 1368م/ أو 779هـ - 1377م)، تحقيق: محمد عبد المنعم العريان، ومصطفى القفاص، دار إحياء العلوم، بيروت(1987، ص: 457

(20) ياقوت 1984، مرجع سابق ج5: 261

(21) ابن المجاور، مرجع سابق،  ص: 271

(22) المرجع نفسه، ص: 271

(23) كتاب الجغرافيا، ط1، أبو الحسن علي بن موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد(ت. 685هـ/1286م) 197، تحقيق: إسماعيل العربيّ، بيروت، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1970، ص: 102

(24) صفة جزيرة العرب، الحسن بن أحمد الهمداني، مطبعة بريل، ليدن، 1884م، 1/91.

(25) ديوان الأفوه الأوديّ، شرح وتحقيق: محمد التنونجي، دار صاد، بيروت، ط1، 1998، ص: 78

(26) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، (ت:175)، تحقيق مهوى المخزوميّ، وإبراهيم السامرائيّ، دار ومكتبة الهلال القاهرة، د.ت 8/158

(27) ظفار: التسمية والدلالة التاريخي، سالم الكثيريّ، مركز حضرموت للدراسات التاريخية والنشر، نسخة إلكترونية: https://hadramout.center/articles/4417

(28) إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، أحمد بن محمد بن أبي بكر القسطلاني، مج1، نسخة إلكترونية، ص414.

(29) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج1، ص: 414 .

(30)  تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الزبيدي، ج12، ص472

(31) نبات عطري يدخل في صناعة الطيوب.

(32) الموطن الأصلي لنبات القسط هو الهند، وإنما نُسب إلى ظفار لأنه كان يجلب إليها من الهند، ومنها يصدر للبلدان ولهذا اشتهر بالنسبة إليها.

(33) إرشاد الساري. مصدر سابق، ج1، ص: 414

(34) لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى (ت  6: 306 في (رقش). دار صادر، بيروت، ط3،

(35) ديوان النابغة الجعديّ، جمعه وحققه وشرحه،: واضح الصمد، دار صادر، بيروت، ط1، 1998، ص: 115

(36) لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الأفريقيّ المصريّ، مج5، حرف الميم، دار الفكر، 2015، ص: 966

(37) ظفار:المدينة والإقليم في المصادر الكلاسيكية وفي نظر الكتاب العرب الأقدمين، عبد الله حسن الشيبه، بحث منشور ضمن بحوث الندوة الدولية للتبادل الحضاري العماني اليمني المنعقدة في الفترة من 7- 8 فبراير 2010م. مج1، ب - ط، مطبعة جامعة السلطان قابوس، مسقط: 2011م ، ص163و ص172.

(38) جيولوجية وجغرافية مرباط، عبدالله بن علي العمري،  بحث منشور ضمن بحوث (ندوة مرباط عبر التاريخ) المنعقدة في الفترة من 27- 28 شوال 1432هـ/ 26-27 سبتمبر 2011م، ط1، المنتدى الأدبي، مسقط 2012م، ص:22

(39) لغة عاد، علي بن أحمد محاش الشحري،  ط1، المؤسسة الوطنية للتغليف والطباعة، أبو ظبي: 2000م، ص:9.

(40) ظفار في صفحات التاريخ، عبدالمنعم بن عبدالله البحر الرواس، بحث مشروع تخرج، غير منشور، تحت إشراف د. محمد عبده حتاملة، قسم التاريخ ، كلية الآداب، الجامعة الأردنية، عمان: 1988م، ص:5.